لا تنحصر المعركة التي تقودها الدولة الباكستانية مع الجماعات المتطرفة بكونها معركة أمنية فحسب، بل تمتد إلى التوازنات السياسية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فهذه الجماعات، سواء كانت محلية المنشأ أو مرتبطة بأطراف خارجية، تتحرك بدوافع مرتبطة بمصالح قوى إقليمية ودولية.
يخوض الجيش الباكستاني مواجهات مع تنظيمات مثل طالبان-باكستان وتنظيم "داعش-خراسان" في وقت حساس، يتقاطع مع التحولات العالمية المرتبطة بأحداث الشرق الأوسط والسياسات الاقتصادية الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب.
فبعد العدوان الإسرائيلي على إيران، سارعت باكستان إلى إعلان مساندتها لجارتها الغربية، وكررت الموقف ذاته مع قطر الخليجية، ما يعكس التوازن الذي تحاول تحقيقه في علاقاتها الخارجية، أمام منافستها الهند، التي باتت تزاحمها في مناطق كانت حصرية على إسلام آباد، مثل أفغانستان التي أصبحت مهدداً رئيسياً لاستقرار الدولة الباكستانية اليوم.
أيضًا، في ظل تصاعد المنافسة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، تضيق أمام باكستان مساحة المناورة للحفاظ على موقعها كمنطقة حرة قادرة على العمل مع الطرفين. ويُمكن فهم زيارة الرئيس الباكستاني، آصف علي زرداري إلى الصين في 12 أيلول (سبتمبر) 2025 ولمدة عشرة أيام، أنها تأتي في هذا السياق، حيث يشكل الممر الاقتصادي بين البلدين مشروعاً استراتيجياً يربط الموانئ الصينية بباكستان، ويفتح الطريق أمام بكين للوصول إلى بحر العرب والخليج عبر ميناء جوادر. غير أن هذه الخطط تصطدم بالمخاطر الأمنية التي تفرضها الجماعات المتطرفة، خاصة في إقليم بلوشستان الذي بات ساحة تنافس اقتصادي بين الصين والولايات المتحدة.
لا تحسم إسلام آباد موقفها بالاختيار بين واشنطن وبكين، بل تمارس سياسة تقوم على المناورات الجيوسياسية. فالصين تصبر على ديونها مقابل الحفاظ على باكستان كثقل موازن أمام الهند، بينما ترى الولايات المتحدة في باكستان أداة ضرورية في مواجهة النفوذ الصيني. ولذلك فإن استمرار العداء مع الهند يمنح باكستان أهمية إضافية في هذه المعادلة، لكن هذه السياسة تضعها في مواجهة مستمرة مع الجماعات المتطرفة التي تستغل هشاشة الوضع الأمني لتعزيز حضورها.
في الوقت نفسه، تواجه باكستان تحديات أمنية متفاقمة داخل حدودها، خاصة في إقليم خيبر باختونخوا. فقد أعلنت السلطات عن دخول أكثر من 8 آلاف مقاتل من طالبان-باكستان إلى ذلك الإقليم في محاولة لبسط سيطرتهم عليه كنواةٍ أولى لإقامة إمارتهم، ما أدى إلى ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية هناك، ودفع حكومة إسلام آباد إلى اتهام طالبان-أفغانستان بتقديم الدعم والتدريب والسلاح للجماعات الباكستانية.
هذه التداعيات لم تتوقف عند الجانب الأمني، بل امتدت إلى الداخل السياسي أيضاً. فقد أصدرت محكمة إسلام آباد الجزئية مذكرة اعتقال بحق رئيس وزراء ولاية خيبر باختونخوا، علي أمين غندابور، بتهمة حيازة أسلحة غير قانونية وخمور. لكن الأمر حقيقةً يتعلق باستجابته لتوجيهات رئيس حزب إنصاف المعارض المسجون، عمران خان، الذي دعا إلى حوار مباشر مع حكومة طالبان في أفغانستان.
وإن كانت هذه الدعوة تبدو واقعية، إذ تستخدم كابول ورقة الجماعات المتطرفة، بهدف ضمان دور لها في المشاريع الاستراتيجية لباكستان، خاصة تلك المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق وحركة التجارة مع آسيا الوسطى، لكن الحكومة الباكستانية تجد أن الأمر يتجاوز مسألة الحوار، في ظل النفوذ الهندي الواسع داخل أفغانستان.
في المحصلة، باتت المواجهة مع طالبان-باكستان معركة سياسية مرتبطة بالتحولات الإقليمية والدولية، وبالمعادلات الجيوسياسية والاقتصادية التي تجعل من باكستان لاعباً محورياً في إطار سياسة المناورة التي تمارسها مع الخارج.
(النهار اللبنانية)