"لفياثان" الشبكات: "جيل زد" وانهيار سيادة الحكومات حول العالم!

في العام 1651، ألّف توماس هوبز أحد أبرز كتب الفلسفة السياسية الحديثة، إلى حدٍّ وصفه البعض بالإنجيل، وضع فيه تصوّرًا عقلانيًا لدور الدولة والحكومة، انطلاقًا من حوادث وأزمات سياسية في أوروبا عاصرَها، من قبيل سعي الكاثوليك في بريطانيا إلى حرق البرلمان وقتل الملك، في ما عُرف حينها بمؤامرة البارود في العام 1605، وحادثة اغتيال الملك هنري الرابع في فرنسا في العام 1610 على يد راهبٍ متعصّب. في فلسفته السياسية، استعمل هوبز استعارة الـ"لفياثان" (Léviathan) وهو كائنٌ أسطوريٌ بحري، له رأس تنّين وجسد أفعى، ليمثّل به السلطة السياسية للدولة التي تستوجب الطاعة المُطلقة، باعتبارها جسدًا اصطناعيًا أنشأه الناس اعتمادًا على اتفاق/تعاقد جماعيّ، لتجاوز حالة الفوضى وغياب الأمن، حيث يُسَلِّم الناس جزءًا من حريتهم المُطلقة إلى كيان أكبر وأقوى / وحشٍ مُتخيّلٍ هو السيادة أو الدولة، يمنحهم الحماية ويضع حدًّا للفوضى وحالة حرب الكلّ ضدّ الكلّ. ولا يكون للفياثان ذلك إلّا إذا تجسّدت له السيادة المُطلقة على الأفراد، يتخلّون بموجبها عن حرياتهم الطبيعية المُطلقة مقابل الاستقرار.

أثارت التطوّرات الأخيرة في مجال التشبيك وزيادة التفاعل والتواصل عبر الشبكات وبواسطتها، صعودًا ونزولًا من القاعدة إلى القمّة وعلى نحوٍ أفقيّ سائلٍ، الكثير من المخاوف والتوجّسات، بشأن سيادة الحكومات ومؤسّسات الدولة المركزية، وطرحت تساؤلاتٍ عميقةً حول مدى قدرة منطق السيادة المركزية للأنظمة السياسية حول العالم على الصمود، في ظلّ صعود "لفياثان إنترنتّي" جديد هو الشبكات الرقمية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي. بموجبها، امتلك الأفراد فضاءاتٍ وأدواتٍ شبكيةً جديدةً أتاحت لهم إمكانية التنظيم والتشبيك خارج مؤسّسات الدولة وأطرها المؤسّساتية، حيث أصبحت الشبكات الاجتماعية اليوم بمثابة فضاءٍ سياسيّ جديدٍ مُحايثٍ للدولة.

الحركات الاحتجاجية حول العالم نتاج لسيادة شبكية سائلة تستثمر في العنف الرمزي لمنازعة الدولة سيادتها

وبخلاف لفياثان هوبز الذي ظلّ شغله الشاغل في القرون الماضية هو حماية سيادة الدولة والحفاظ على وحدة المجتمع تحت سلطةٍ واحدةٍ، تسير الشبكات الرقمية في الاتجاه المعاكس، حيث تُصنع إراداتٍ بدل إرادةٍ واحدةٍ مُطلقة، وتُعيد الصراع والتشظّي إلى المجال العمومي، وتسمح بانتشار التضليل والاستقطاب وسيلان الأخبار الكاذبة، وسيطرة التعصّب السياسي لمؤيّدي الطبقة المُهيمنة على الآراء الأخرى، وصياغة سرديّات بديلة مجهولة المصدر في الكثير من الأحيان تقف في مواجهة خطاب الدولة وسرديّتها الرسمية.

ولادة "لفياثان" جديد يُعيد توزيع السلطة والقوة عبر الشبكات

من هذا المنظور، يمكن فهم الحركات الاحتجاجية حول العالم منذ 2011 وإلى اليوم، باعتبارها نتاجًا لسيادةٍ شبكيةٍ سائلةٍ تستثمر في العنف الرمزي لمنازعةِ الدولة سيادتها وحقّها في احتكار العنف والهيمنة والنفوذ. ولعلّ الصور التي عمّت مؤخّرًا الشبكات والمنصّات بخصوص احتجاجات النيبال وسريلانكا وبنغلاديش وإندونيسيا، والتي قادها جيل الشبكيّين أو "جيل زد"، إنّما هي في مُجملها تُشير إلى صعود سلطة شبكية جديدة، متمرّدة وغاضبة، تعمّ فجأةً الشوارع والساحات كما المنصّات والشبكات لتُعيد تعريف القوة والشرعية خارج منطق العقد الاجتماعي التقليدي. يغدو بموجبها فضاء الشبكات - الذي أصبح يسكنه جيل جديد يضع خريطة الثقافة السياسية موضع إعادة توزيع وتقاسُم - فضاءً لولادة "لفياثان" جديد يُعيد توزيع السلطة والقوة عبر الشبكات.

الدول العربية تزداد هشاشتها وتنكشّف عورات سيادتها يومًا بعد آخر أمام مواطنيها الشبكيين

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، بل تجاوزه مثلًا في النيبال - وبعد نجاح "جيل زد" في إسقاط الحكومة النيبالية خلال 48 ساعة فقط، وملاحقة وزرائها في الشوارع بصورةٍ مُهينة - إلى مستوى اللجوء للشبكات الاجتماعية والذكاء الاصطناعي لاختيار المُترشّح الأكثر نزاهةً وشفافيةً لقيادة البلاد، حيث لجأت مجموعة "هامي نيبال" الشبابية المنتمية للجيل نفسه - بحسب صحيفة "تايمز" البريطانية - إلى تنظيم حلقات نقاش رقميّة على تطبيق "ديسكورد" (Discord) واستخدام "شات جي.بي.تي" لتوليد قائمة المُترشّحين المحتملين لقيادة الحكومة الجديدة مع مزايا وعيوب كل مُترشّح، انتهت باختيار الرئيسة السابقة للمحكمة العليا سوشيلا كاركي (Sushila Karki) لتمثيلهم والتفاوض مع الجيش وإدارة الحكومة الجديدة.

لقد ظلّت الدول الحديثة خاصّةً الديموقراطية منها، تستند إلى شرعيّتها المؤسَّسة على تفويضٍ من الشعب لأداء مهامّها وضبط استقرار واستمرار المؤسّسات واحترام القوانين، والنتيجة لهذه العملية "لفياثان" سياسي أو عقد اجتماعي يمنع الفوضى ويحافظ على السيادة ويدعم الاستقرار. في المقابل، يضمن أن يقوم الحاكم بتنفيذ الإرادة العامة للشعب، ويُحاسَب على كلّ تقصير أو سوء استخدام للسلطة. لكن مع صعود "لفياثان" الشبكات والخوارزميات، فكلّ ذلك معرّض أن يُنسف وفي زمنٍ برقيّ لا تستطيع مواجهته حتى أعتى الديموقراطيات، حيث تشير الوقائع إلى زيادة الاستقطاب والعنف والاضطراب الاجتماعي، وظهور بوادر حرب أهلية في كلّ من بريطانيا وأميركا وفي بلدانٍ أوروبيةٍ أخرى. وإذا كان الأمر كذلك هناك، فكيف يكون أمر الدول الهشّة ديموقراطيًا مثل الدول العربية والتي تزداد هشاشتها وتنكشّف عورات سيادتها يومًا بعد آخر أمام مواطنيها الشبكيين كما أمام العالم.

خارج الخوف من القانون ستكون الأجيال الشبكية تحت طائلة العنف واستبداد الخوارزميات وعبودية الذكاء الاصطناعي

لكي تصبح الشبكات الاجتماعية أداةً فعّالةً لممارسة الديموقراطية، وأدوار "جيل زد" طلائعية، يجب أن تتحوّل المدنية والثقافة السياسية كما الثقافة الإعلامية والشبكية معيارًا لسلوك المواطنين، يفهم بموجبها الحاكم والمحكومين دينامية الـ"لفياثان" الشبكي ومعنى التواصل العقلاني والعقد الاجتماعي، وحينها فقط يمكن أن يُباشَر الإصلاح. وكما قالها هوبز ذات يوم: "إنّ أعظم قوة في العالم ليست هي القانون، بل الخوف الذي يصنعه القانون"، وخارج ذلك الخوف ستكون الأجيال الشبكية الحالية كما القادمة تحت طائلة العنف والفوضى، والأخطر استبداد الخوارزميات وعبودية الذكاء الاصطناعي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن