رغم أنّ ما يحدث لا يشبه حالة بريطانيا نهاية القرن 19 والتي وصفها الفيلسوف توماس هوبز بـ"حالة حرب الكلّ ضدّ الكلّ"، إلا أنّ اتساع المآوي الثقافية والإثنية والسياسية مقسّمة الأفراد إلى جماعات وأحزاب وطوائف، مع وجود فائض في العنف اللفظي والإرهاب الفكري، قد أنتج تباعدات وقطائع جديدة ما بين الإخوة العرب. تقوم على السب والشتم والإقصاء والاستبعاد، وصولًا إلى التكفير والتخوين.
كثير مما يشاع من تطرّف فكري وأيديولوجي وراء انتشار وإعادة بناء السرديات النزاعية القديمة والجديدة
من أجل جعل واقعة اجتماعية من هذا الحجم قابلة للفهم والتفسير، تكثّرت السرديات التبريرية وتعدّدت: من قبيل تمدّد العولمة المتوحشة، وتقلّص سيادة الدولة الأمّة، ناهيك عن انغلاق الأنظمة العربية، وبروز ديموقراطية شكلية وتعددية حزبية صنمية..، كل ذلك أوحى بأنّ الحلّ يكمن في موازنة المعادلة الاجتماعية، من قبيل تعزيز المواطنة والانتماء الوطني قبل الطائفي والهوياتي، وترسيخ دولة المؤسسات بدل دولة الزعامات، وتكريس العلمانية، على أساس أنّ معالجة الوضع مرتبطة أساسًا بتجفيف منابعه ومبررات وجوده البنيوية، والتي ترسّبت حتى لم نعد نراها لشدّة تجذّرها.
في نظرنا، تكون البداية من مراجعة منظوماتنا التربوية والثقافية، خاصةً في سعيها القسري نحو تكريس وحدة الانتماء، ووحدة الهوية، ووحدة الحقائق والأفكار. فكثير مما يشاع في هذه المؤسسات من تطرّف فكري وأيديولوجي وراء انتشار وإعادة بناء السرديات النزاعية القديمة والجديدة على حد سواء (سني/ شيعي، يساري/ ليبرالي، مغربي/ جزائري..)، محافظة على ديمومتها بل زائدة من وهجها ومعزّزة من صلابتها الواقعية والرمزية. وهذا التلازم ناتج عن كون هذا النوع من الأيديولوجيا أصبح تعبيرًا عن الحقيقة المطلقة، إذ إنّ المنطق الداخلي المؤسّس لكلّ منها يجعلها تقدّم نفسها كمعطيات فوق-تاريخية، وكماهيات لا تتغيّر بتغيّر الأزمنة والأمكنة. إذ تحيل في معظمها على عقيدة ثابتة، وعلى شعور قوي بالامتياز والتفوّق، "وإذا كان مفهوم الدين المطلق يرى أنّ جهنم للآخر لأنّ الآخر يعبد ما لا أعبد، فإن مفهوم - الطائفة - الحق يذهب أبعد من ذلك ليقرّ أنّ الآخر هو جهنم بعينه.
لا بدّ من الأخذ بمبادئ التفكير العلمي الذي يعترف بحدود العقل ونسبية المعرفة وتعدّد وجوه الحقيقة
ولذلك فالمطلوب حاليًا هو تحقيق شروط الضيافة "العَروبية" للجميع، وتجاوز أشكال التقسيم الهوياتي الكلاسيكية التي حوّلت الإخوة العرب إلى أعداء (الجغرافيا، التاريخ، الثقافة، الدين والسياسة..)، وفسح المجال واسعًا أمام الذوات العربية، للتعبير عن حضورها بما فيه من اختلاف وتمايز وخصوصية، وخلق فضاءات / منصات مدنية وسطية ما بين البلدان العربية، تبحث فيما يجمع العرب لا فيما يفرّقهم، ويعلو فيها صوت الحوار والنقاش، مع السماح بالكثير من التمدّد والاتساع في الأفكار والآراء والقناعات.
ولا بدّ في كل ذلك من مطرقة "نيتشه" من أجل ممارسة نقد جذري لمنظومتنا الفكرية والفقهية، ورفع وصاية وجبروت الفكر المتطرّف في تقاطعه، الواقف على طرف النقيض من العلم ومنجزاته، والأخذ بمبادئ التفكير العلمي، الذي يعترف بحدود للعقل ونسبية المعرفة الانسانية مهما علت قدسيّتها، وتعدّد وجوه الحقيقة، وجعل كل ذلك مشروع تشكيل حياتنا المستقبلية... أيّها الإنسان العربي أعمل عقلك "كن شجاعًا واستخدم عقلك بنفسك".
(خاص "عروبة 22")