النانومتر هو جزء من مليار من المتر، وعادةً تتعامل تقنية النانو مع قياسات للمواد المستخدمة تتراوح ما بين 10 و100 نانومتر وهي أبعاد أقلّ كثيرًا من أبعاد الخليّة الحيّة والبكتيريا. والأساس العلمي لها يعتمد على تغيّر الخواص الفيزيائية والكيميائية للمواد عند تقليص حجمها إلى مقياس النانو، مثل التغيّر في اللون والصلابة والتوصيلية الكهربائية والحرارية، وكذلك زيادة النشاط الكيميائي والمساحة السطحية والقدرة على التفاعل مع البيئة المحيطة، بما يؤدّي إلى زيادة كفاءتها بأقلّ تكلفة ممكنة.
يمكن لتكنولوجيا النانو تغيير وجه الزراعة في المنطقة العربية
ويتمّ تشكيل المواد النانوية بالطرق الميكانيكية مثل الحفر الضوئي، القطع، والكحت أو بالطرق الكيميائية. وتعدّ تكنولوجيا النانو من أبرز التطوّرات العلمية الحديثة التي أثّرت في المجال الزراعي ويمكنها تغيير وجه الزراعة في المنطقة العربية، لأنّها فعّالة في مواجهة التحدّيات الكبيرة والظروف القاسية القائمة في المنطقة.
وباستعراض أهم تطبيقات تكنولوجيا النانو في المجالات الزراعية المختلفة، نجد أنها تمكّنت من إنتاج ما يُعرف بالأسمدة النانوية، التي يتمّ تصنيعها من حُبيْباتٍ مغلّفةٍ بجُسيْمات نانوية يقلّ حجمها عن 100 نانومتر، ممّا يكسبها خصائص فيزيائية وكيميائية تؤدّي إلى نقلةٍ نوعيةٍ في معالجة خصوبة التربة من خلال الإطلاق البطيء للعناصر الغذائية، بما يساعد النباتات على امتصاصها بكفاءةٍ عاليةٍ، وهذا يقلّل من الحاجة لكمّيات كبيرة من الأسمدة التقليدية ويخفّف من التلوّث الناتج عن تسرّبها إلى المياه الجَوْفية من دون استفادة النبات منها.
كما بات هناك ما يُعرف بالأسمدة "البايونانوية" التي أضافت ميزة الدمج بين العناصر الغذائية المتوفّرة في الأسمدة والميكروبات النافعة، التي تساعد النبات على مقاومة الظروف القاسية لبعض أنواع التربة الصحراوية التي تنتشر في البلدان العربية والتي تعاني من الجفاف ونُدرة المياه، حيث تُعطى هذه الأسمدة فرصةً هائلةً للتوسّع في زراعة مساحات واسعة من تلك الأراضي.
"الطين النانوي" يقلّل من فقدان المياه والمبيدات والأسمدة في التربة الصحراوية ويرفع من خصوبتها
وفي مجال المُبيدات الزراعية، تمّ إنتاج المُبيدات النانوية التي تُستخدم في مقاومة أنواعٍ عديدةٍ من الآفات الزراعية بكفاءةٍ عاليةٍ، من خلال تغليفها بجُسيْمات نانوية تساعد على وصولها مباشرةً وبدقةٍ متناهيةٍ إلى موقع الإصابة والتعامل معها بفعّالية وبأقلّ جرعات من المُبيدات (يمكن وصفها مجازًا بالمُبيدات الذكية)، ما ينعكس انخفاضًا في الأثر المتبقّي للمُبيد، سواء في النباتات أو التربة أو المياه وبالتالي المحافظة على البيئة الزراعية. بالإضافة إلى الحصول على منتجات زراعية آمنة يمكن تصديرها إلى الخارج من دون التعرّض لمشاكل الرفض التي تواجه العديد من المنتجات الزراعية العربية نتيجة استخدام المُبيدات التقليدية.
وفي مجال إدارة التربة والمياه، قدمت تكنولوجيا النانو حلولًا مبتكرةً مثل "الطين النانوي" الذي يقلّل من فقدان المياه والمُبيدات والأسمدة في التربة الصحراوية ويرفع من خصوبتها. كما تمّ ابتكار نوعٍ من "الرمل النانوي المطلي بمواد حافظةٍ للمياه، ويقلّل تبخّرها في الأراضي الجافة ويحافظ على رطوبتها لفتراتٍ أطول، بحيث يمكن وصفه بالرمل المحبّ للمياه.
وهناك أيضًا مُستشعرات نانونية يمكنها مراقبة مستويات الرطوبة والعناصر الغذائية ودرجة الخصوبة في التربة، ساعدت المزارعين على اتخاذ قرارات دقيقة تقلّل من استهلاك المياه والأسمدة، وتُمهّد الطريق مع تقنيات الذكاء الاصطناعي لِما يُعرف بالزراعة الدقيقة والتي تمثّل مستقبل الزراعة الهادفة إلى تعظيم الإنتاجيّة بأقلّ الموارد.
ولعبت تكنولوجيا النانو أيضًا دورًا مهمًّا في تحسين أساليب تخزين المنتجات الزراعية، حيث تمنع تكاثر الميكروبات وتُطيل فترة الصلاحية مع المحافظة على الطعم والجودة.
تحدّيات تواجه توسّع انتشار تكنولوجيا النانو عربيًا من أهمّها ارتفاع تكاليف البحث
وفي هذا السياق، تمّ تطوير أجهزة استشعار نانوية يمكنها الكشف عن الملوّثات والسموم في الأغذية بسرعةٍ ودقةٍ عاليتَيْن، كما تمّ تطوير عبوات ذكية تُغيّر لونها عند فساد الطعام أو ارتفاع الملوّثات. كما يتمّ استخدام مواد نانوية تُطلق مضادّات للأكسدة أو بكتيريا بشكلٍ تدريجيّ للحفاظ على الطعام طازجًا لمدّةٍ أطول، بالإضافة إلى تطوير مُلصقاتٍ نانويةٍ تساعد على تتبّع الأغذية وسلامتها عبر سلاسل التوريد، بما يقلّل من الهدر الغذائي ويُخفّض من التكاليف الناتجة عن تلفها ويعزّز ثقة المستهلك.
ونتيجةً لكل هذه المميّزات، تبنّت العديد من الدول العربية تكنولوجيا النانو. على سبيل المثال، أجرت مصر العديد من التجارب على إنتاج أسمدة نانوية لها القدرة على تحفيز نموّ النباتات وزيادة إنتاجيتها في البيئات الصحراوية قليلة الخصوبة. كما استحدثت أنواعًا من المُبيدات النانوية الصديقة للبيئة لمقاومة الآفات من دون أن تبقي آثارًا للمبيدات.
وطوّرت السعودية مستشعرات نانوية لمراقبة رطوبة التربة وعناصرها الغذائية، ما أدّى إلى ترشيد استهلاك المياه والأسمدة بصورة فعّالة في بعض المشاريع الزراعية الجديدة. كما طبّقت هي والأردن تكنولوجيا الأغشية النانوية في تحلية مياه البحر لاستخدامها في الريّ.
بدورها، أجرت الإمارات دراساتٍ متقدّمةً لدمج تكنولوجيا النانو مع تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة الصُّوَبِ الزراعية والأراضي حديثة الاستصلاح، كما قامت بتطبيق تكنولوجيا النانو في مجالات تقليل فواقد ما بعد الحصاد للمحاصيل الزراعية ومن خلال استخدام العبوات النانوية في حفظ وتداول الأغذية.
وفي تونس والمغرب، تمّ تطوير أسمدة نانوية متدرّجة الإطلاق خفّضت استهلاك الأسمدة الكيميائية التقليدية، بالإضافة إلى مُبيدات نانوية لمكافحة الأمراض الفطرية التي تُصيب محاصيل الخضار بكفاءةٍ عاليةٍ، واهتمّت الأردن بإنتاج الأسمدة النانوية الصديقة للبيئة.
غياب قوانين تنظيم استخدام تكنولوجيا النانو في البلدان العربية وعدم وجود خطة تكامليّة لتبادل الخبرات والدراسات
وعلى الرَّغم من المزايا الكبيرة لتكنولوجيا النانو في المجال الزراعي، إلّا أنّ هناك العديد من التحدّيات التي تواجه توسّع انتشارها عربيًا، من أهمّها ارتفاع تكاليف البحث في هذا المجال مع الحاجة إلى دراساتٍ طويلة المدى للتأكّد من الإضافة التراكمية لتلك التقنيات على التربة والمياه والبيئة المحلية العربية.
هناك أيضًا مشكلة غياب قوانين واضحة لتنظيم استخدام تلك التكنولوجيا في البلدان العربية كافّة، بالإضافة إلى عدم وجود خطة تكامليّة لتبادل الخبرات والدراسات بينها لتطوير مُنتجات نانوية تتناسب مع الظروف المحلية، بالإضافة إلى الحاجة إلى تدريب المُزارعين على استخدام تلك التكنولوجيا كبديلٍ للطرق التقليدية التي تتّسم بانخفاض الكفاءة وارتفاع التكلفة.
والخُلاصة أنّه لا بديل للزراعة العربية من تبنّي تكنولوجيا النانو، بخاصة أنّها يمكن أن تمثّل أداةً فعّالةً لزراعة واستصلاح الأراضي الصحراوية الشاسعة في البلدان العربية، فقد يصبح "النانو" بمثابة عصا موسى التي طالما ترقّبها العرب لقهر الصحراء.
(خاص "عروبة 22")