تأسيسًا على ما سبق، نزعم أنه يمكن حصر هذه المهام في النقاط التالية:
ــ يمكن اعتبار ممارسة النقد الذاتي أولى هذه المهام المطلوبة اليوم من طرف كلّ المؤمنين بالفكرة القومية أو كل من يحمل همًا قوميًا. نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار تواضع الإصدارات التي تصبّ في هذا الاتجاه، وإن كانت مبررات هذا التواضع وجيهة نسبيًا عند البعض أو غير مقنعة عند البعض الآخر، ففي الحالتين معًا، لا يمكن إضافة الجديد في الفكرة القومية دون المرور من محطة النقد الذاتي، وما أكثر التجارب النافعة التي يمكن الاستئناس بها في هذا السياق، أقلّها تجربة قريبة جغرافيًا من المنطقة العربية، وهي تجربة "مدرسة فرانكفورت" الألمانية، حتى إنها توصف بـ"المدرسة النقدية"، وتميّزت بتحقيق تراكمات نقدية في عقر المدرسة نفسها، أفضت إلى الحديث عن أجيال فكرية في رموزها.
عدة توجّهات اشتغلت على تقزيم الفكرة القومية وحصارها لأسباب إيديولوجية وسياسية
ــ نأتي للمهمة الثاني التي تلي الأولى أعلاه، وعنوانها الانخراط في مشاريع قومية مؤسساتية تروم تجديد الفكرة القومية، شرط أن تأخذ بعين الاعتبار عدة محدّدات، وفي مقدمتها التطورات الميدانية التي مرّت منها المنطقة العربية خلال العقود الماضية، موازاةً مع المستجدات النظرية التي يمرّ منها العالم بأسره وليس المنطقة العربية وحسب، من قبيل هيمنة المنظومة الرأسمالية، شيوع خطاب النهائيات، ومنها "نهاية الإيديولوجيا" بتعبير دانيال بل، تفشي خطاب السيولة الذي حذر منه واشتغل عليه عالم الاجتماع البولوني، الراحل زيغمونت باومان، ضمن تحولات أخرى.
ــ بالنسبة للمهمة الثالثة، فإنها تفعيل لمقتضى الأثر الفيزيائي الذي جاء فيه أنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ، والمقصود هنا تأمّل طبيعة ومضامين الخطابات الفكرية أو النظرية إجمالًا، السائدة عربيًا في المنصات الإعلامية والمراكز البحثية، ومعلوم طبيعة هذه الخطابات، خاصة تلك التي تهمّ أداء العديد من المراكز البحثية، حيث نعاين عدة توجّهات أساءت إلى الفكرة القومية أو نافستها، إن لم نقل اشتغلت على تقزيمها وحصارها لأسباب إيديولوجية وسياسية وغيرها.
ومن يتابع أداء هذه المراكز لن يجد صعوبات كبيرة في معاينة ضمور الخطاب القومي في ما يصدر عن أغلب تلك المراكز، ومن ذلك، ما يصدر عن مراكز "أسلمة المعرفة" التي تعجّ بها الساحة، سواءً كانت صريحة في الدفاع عن هذا الخطاب وإعلان الولاء له، أي الولاء الإيديولوجي الصرف الذي يصبّ في مصلحة مشاريع "الإسلام السياسي"، أو كانت تمارس الازدواجية.
المطلوب إطلاق منصّات ومراكز بحثية تروّج للفكرة القومية بخطاب جديد ونقد ذاتي
وثمّة اختبارات بسيطة يمكن لأي متتبّع القيام بها لكي يختبر خطاب هؤلاء الخاص بالفكرة القومية تحديدًا، أقلّها البحث في أرشيف المواقع الرقمية لهذه المراكز عن حضور المقالات والدراسات، فالأحرى الإصدارات التي تهمّ أعمال رموز الفكر القومي في المنطقة العربية، حيث لن تخرج النتيجة عن الغياب الجلي، أو الحضور في خانة النقد والتقويض.
مطلوب في هذا الباب الخاص بالمهمة الثالثة، إطلاق عدة منصّات ومراكز بحثية، تدافع وتروّج للفكرة القومية، بخطاب جديد، ويأخذ بعين الاعتبار مقتضى المهام أعلاه، وفي مقدّمتها ممارسة النقد الذاتي، والاشتغال على إضافة الجديد في التنظير، فالأحرى منافسة ما هو سائد في الساحة.
ثمّة مهام أخرى موازية لا تقل أهمية، تتطلّب فتح جبهات نظرية حقيقية، ذات صلة بالتحولات الفكرية التي مرّت منها المنطقة العربية، موازاةً مع التحولات التي طالت مخيال شعوب المنطقة العربية، والتي نعاين آثارها جليًا في الساحة من البحر إلى البحر، وهذا موضوع يستحق وقفة خاصة وجريئة.
(خاص "عروبة 22")