ظهرت ملامح حرب الشوارع منذ العصور القديمة، إذ كانت المدن المُحصّنة تتحوّل إلى مراكز مقاومة شرسة في وجه الجيوش الغازية. وقد وردت إشارات مبكّرة إلى هذا النمط القتالي في كتاب "فنّ الحرب" للقائد الصيني صن تزو (ت 496 ق.م)، حيث أوصى باستخدام تكتيكات الكرّ والفرّ بوصفها أداة دائمة في الحروب.
أمّا في العصر الحديث، فقد صيغ المصطلح تحت اسم حرب العصابات (Guerrilla Warfare) خلال حرب الاستقلال الإسبانية ضدّ فرنسا ما بين عامَيْ 1808 و1814.
ومع تطوّر الأسلحة الحديثة، برز هذا النمط القتالي بوضوح في القرنَيْن التاسع عشر والعشرين، فظهر في الجهاد الليبي ضدّ المستعمر الإيطالي عام 1911 بقيادة عمر المختار، وفي حرب الريف (1914-1926) بقيادة المناضل المغربي عبد الكريم الخطابي، ثم في الثورة الكوبية (1953) بقيادة فيدل كاسترو وتشي غيفارا. كما تجسّد في الثورة الجزائرية (1954-1962) ضدّ الاستعمار الفرنسي، وفي حرب فيتنام ضدّ الغزو الأميركي (1961-1975)، وفي الحرب الشعبية الصينية ضدّ الاحتلال الياباني بقيادة ماو تسي تونغ (1937-1945)، وكذلك في المقاومة العراقية للغزو الأميركي - البريطاني عام 2003.
حرب الشوارع من أكثر أنماط القتال إنهاكًا للجيوش النظامية
وقد ألّف المناضل الكوبي تشي غيفارا كتابه "حرب العصابات"، ووضع فيه الدليل العملي والاستراتيجي لتكتيكات هذا النوع من القتال، مُطوّرًا إياها إلى نهج قتالي فعّال في مواجهة الجيوش النظامية. وجاء ذلك بعد نجاحه، بالتعاون مع فيدل كاسترو، في تحرير مدينة سانتا كلارا الكوبية عام 1958، وصولًا إلى السيطرة على العاصمة هافانا، وتحقيق انتصار الثورة على الديكتاتور باتيستا المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية. وقد غدا كتابه مرجعًا أساسيًا لآلاف المقاتلين في حروب العصابات في مختلف أنحاء العالم.
طبيعة حرب الشوارع وتحدّياتها للجيوش النظامية
تُعَدُّ حرب الشوارع من أصعب أنماط القتال وأكثرها إنهاكًا للجيوش النظامية، إذ تنتزع منها عناصر التفوّق التقليدي وتضع الجندي النظامي في مواجهة مقاتلٍ متمرّسٍ بجغرافيته. فهي تُضعف فعّالية التفوّق التكنولوجي للجيوش، حيث تفقد الطائرات والدبابات قدرتها على الحسم في الأزقّة الضيقة، وتتحوّل الآلة العسكرية الثقيلة إلى أهدافٍ سهلةٍ أمام المقاتل الخفيف الحركة.
وتكمن خطورة حرب الشوارع أيضًا في عنصر المُباغتة الذي يمنح زمام المبادرة للمقاومة، فالمقاتل قد يختفي طويلًا ثم يظهر فجأةً بتوجيه ضربة موجعة لدورية أو عربة مدرّعة، فيُجبر الجيش النظامي على التحوّل من قوة مهاجمة إلى قوة مطاردة.
وتزيد البنية التحتية المقاوِمة من تعقيد المواجهة؛ فشبكات الأنفاق تمنح المقاتلين قدرةً هائلةً على التخفّي والتنقل وتنفيذ العمليات المُباغتة، وهو ما يُطيل أمد الصراع ويحول دون تحقيق نصر سريع.
وإلى جانب ذلك، تمثّل الحرب النفسية والإعلامية جزءًا أصيلًا من حرب الشوارع، إذ تتحوّل كلّ صورة لانفجار أو كمين إلى رمزٍ يُعزّز في الوعي الجمعي صورة الضعيف الذي يتحدّى الجيش المُتغطرس.
غزّة بعد "طوفان الأقصى" وحرب الشوارع
في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، دشّنت عملية "طوفان الأقصى" مرحلةً جديدةً من الصراع، إذ انتقلت المواجهة من حدود غزّة إلى عمق المستوطنات، ثم عادت إلى قلب غزّة حيث برزت حرب الشوارع كأكبر كابوسٍ للجيش الإسرائيلي. فقد مثّلت شبكة أنفاق غزّة، المعروفة بـ"مترو حماس"، عُمقًا استراتيجيًا للمقاومة، إذ لم تكن مجرّد ممرّات تحت الأرض، بل منظومة عسكرية متكاملة أتاحت للمقاتلين مرونةً في الحركة والكمائن، ومنحتهم القدرة على الانتقال المفاجئ من جبهةٍ إلى أخرى.
مقاتلون يعرفون جغرافيا المكان ويستخدمونها كسلاح فعّال
وفي شوارع غزّة الضيقة، استدرج المقاتلون الفلسطينيون القوات الإسرائيلية إلى معارك مباشرة حيث تفقد الدبابات والمجنزرات قدرتها على الحركة، وتصبح عرضةً للعبوات الناسفة والقذائف المضادّة للدروع. وعلى الرَّغم من التفوّق التكنولوجي لدبابات "ميركافا" الإسرائيلية، فإنّها تحوّلت إلى أهدافٍ سهلةٍ في مواجهة مقاتلين يعرفون جغرافيا المكان ويستخدمونها كسلاحٍ فعّال. وقد ترافق ذلك مع حربٍ إعلاميةٍ مكثّفةٍ، حيث بثّت المقاومة مشاهد مصوّرة لاستهداف الدوريات والمدرّعات الإسرائيلية، فتحوّلت الحرب إلى معركة صورة ووعي ضاغطة على الجنود وعلى القيادة السياسية والعسكرية في تل أبيب.
حرب الشوارع وإضعاف الجيش الإسرائيلي
منذ تأسيسها، سعت "إسرائيل" إلى تكريس صورة جيشها بوصفه "لا يُقهر". غير أنّ حرب الشوارع في غزّة جاءت لتكشف هشاشة هذه الصورة، إذ وجد الجنود أنفسهم في مواجهة واقعٍ معقّدٍ داخل بيئة حضرية ضيّقة لم تُجْدِ فيها التكنولوجيا ولا التفوّق التنظيمي. وقد أسفر هذا النمط من القتال عن استنزافٍ بشري ومادي غير مسبوق، ومع كل جندي مفقود أو دبابة مُعطلة تتعمّق أزمة الثقة داخل المجتمع الإسرائيلي، فتتصدّع صورة المؤسّسة العسكرية وتتراجع سمعتها.
غدت غزّة اليوم مدرسة للمقاومة المعاصِرة
على المستوى الاستراتيجي، دخلت القيادة الإسرائيلية في مأزقٍ حقيقيّ، فالتوغّل في غزّة يعني الانغماس في حرب استنزافٍ دمويةٍ بخسائر فادحة، أمّا التراجع أو الاكتفاء بالقصف عن بُعد فيُفهم على أنّه هزيمة سياسية. وهكذا، تحوّلت حرب الشوارع إلى عامل شلل استراتيجي جعل إسرائيل عاجزةً عن اتخاذ قرار حاسم، وهو في حدّ ذاته انتصار للمقاومة. وزاد الأمر تعقيدًا أنّ التفوّق العسكري الإسرائيلي الذي لطالما كان مصدر قوة، أصبح عبئًا ثقيلًا، إذ إن اللجوء إلى القصف العشوائي زاد من عزلة إسرائيل الدولية وجرّ عليها انتقادات حقوقية واسعة.
إنّ ما جرى في غزّة يُرسّخ حقيقةً تاريخيةً ثابتةً، وهي أنّ حرب الشوارع تمثّل سلاح الشعوب في مواجهة القوى العظمى، وأداةً قادرةً على تحويل الهزيمة المتوقّعة إلى نصر سياسي ومعنوي. وقد غدت غزّة اليوم مدرسةً للمقاومة المعاصِرة، وتقدّم نموذجًا سيظلّ مُلهمًا لحركات أخرى حول العالم وهي تبحث عن سبلٍ لمواجهة جيوشٍ تتفوّق عليها عُدّةً وعتادًا.
(خاص "عروبة 22")