تُمثّل جنوب القوقاز وآسيا الوسطى وجنوب آسيا مناطق موازية للشرق الأوسط من حيث وفرة الموارد الطبيعية والنفط والغاز، ورغم أن بعضها يطل على بحار مغلقة، إلا أنها متاخمة لكل من روسيا والصين، ما يمنحها أهمية خاصة في الحسابات الأميركية. لذلك عندما أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحديث عن أهمية استعادة قاعدة بَاغرام الأفغانية، لم يكن ذلك انقلاباً على اتفاقية الدوحة لعام 2020 التي مهدت للانسحاب الأميركي من أفغانستان المُنجز في 30 آب (أغسطس) 2021، بل يندرج في إطار رؤيته للسيطرة الاقتصادية على الموارد الاستراتيجية.
هناك إشارات متزايدة على جدية واشنطن في تعزيز وجودها داخل هذه المنطقة الغنية بالثروات المعدنية، التي تشكل مصدراً لتغذية القوى الاقتصادية المنافسة لها. إذ أقر مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يتيح للبنتاغون تبادل المعلومات الاستخبارية مع جماعات معارضة لـ"طالبان" الحاكمة في أفغانستان، في خطوة تعد تمهيداً للعودة إلى هناك، لكن هذه المرة ضمن إطار اقتصادي يتجاوز الحدود الأفغانية. ويبدو أن الهدف الأساسي هو الضغط على "طالبان" للامتثال لمطالب واشنطن، وإعادة بناء القاعدة العسكرية التي مهمتها تأمين الاستثمارات الأميركية في تلك المنطقة، باستغلال المعدات التي هُربت إلى دول مجاورة مثل أوزبكستان وطاجيكستان.
مع بروز مشروع "ممر ترامب للسلام" (تريب)، الذي يفترض أن يربط بحر قزوين وجنوب القوقاز بتركيا ثم أوروبا، ازداد الحديث عن جدية الولايات المتحدة في تعزيز وجودها داخل هذه المنطقة، وهو ما دفع دول آسيا الوسطى المجاورة إلى البحث عن منافذ جديدة نحو الجنوب والغرب، لتأمين توازن أمام روسيا والصين اللتين تمثلان ثقلاً في الشمال والشرق. وتظهر التحركات المتسارعة لتلك الدول رغبتها في تعزيز مكانتها ضمن الاستراتيجية الأميركية، فقد وقعت أوزبكستان اتفاقية ثلاثية مع أفغانستان وباكستان لمد خط سكك حديد يربط ترمذ (شمالاً) ببيشاور (جنوباً)، ما يسمح لها بالوصول إلى موانئ المحيط الهندي. كما انضمت تركمانستان وكازاخستان إلى المنافسة عبر توقيع اتفاقيات لتطوير ميناء تورغاندي الجاف وممر السكك الحديد تورغاندي-هرات داخل أفغانستان.
أما غرباً، فقد شكل اجتماع قادة آسيا الوسطى مع الاتحاد الأوروبي في سمرقند ربيع 2025 إشارة واضحة إلى دعم تلك الدول "الممر الأوسط" الذي يصلها مباشرة بأوروبا. وهو ما يكشف توجهاً براغماتياً جديداً، إذ تسعى هذه الدول إلى تقليل اعتمادها المفرط على موسكو وبكين، مع العمل على تعزيز مكانتها الاقتصادية والجيوسياسية أمام القوى الغربية، بخاصة أنها دول حبيسة تطمح الى الخروج نحو حدود ومنافذ بحرية جديدة.
هذا التوجه نحو المصالح الغربية دفع دولاً في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى إلى التفكير في الانخراط في مشروع الاتفاق الإبراهيمي، الذي تجاوز المصالح الإسرائيلية وأصبح جزءاً من استراتيجية أميركية أوسع. فإسرائيل تنتهج ما يُعرف بـ"استراتيجية المحيط"، عبر بناء علاقات مع دول إسلامية مثل تركيا وأذربيجان وتركمانستان لتجاوز عزلتها الإقليمية، لكن ما يُمكن أن تقدمه الى تلك الدول سيكون في خدمة المصالح الأميركية. ولهذا يثار حديث متكرر حول إمكان انضمام أذربيجان وكازاخستان إلى ذلك الاتفاق، بخاصة مع وجود مجتمعات يهودية تاريخية في تلك المنطقة.
بذلك تشير الوقائع إلى أن الاهتمام الغربي بمناطق آسيا الوسطى وجنوب القوقاز يرتكز إلى ثرواتها النادرة والحيوية اللازمة لصناعات الدفاع والتكنولوجيا والصناعات الثقيلة في الألفية الثالثة. غير أن الطريق لا يخلو من العقبات؛ فالشركات الروسية والصينية سبقت الأميركيين بفضل القرب الجغرافي، إلى جانب وجود تحديات متعلقة بالبنية التحتية والتشريعات المعقدة، فضلاً عن مؤسسات وشركات تخضع للعقوبات الأميركية، بخاصة القريبة من روسيا.
(النهار اللبنانية)