إنّه جمال عبد الناصر، الذي يمرّ على رحيله خمسة وخمسين عامًا، ظلّ خلالها ملء السمع والبصر، كبطلٍ اقتحم مسيرة الزمن وخرج بمصر من كهف الاحتلال والإقطاع إلى آفاق الاستقلال والتحديث. كان ناصر بطلًا بحقّ التغييرات التي أحدثها في موقع مصر داخل الإقليم والعالم، بسعيه إلى امتلاك المصير، وإلى التأثير في حركة التاريخ، الذي كان قارئًا واعيًا له، مُدركًا لمنطق سيره ولطبيعة القوى الصانعة له، غاضبًا من الهيمنة الغربية، توّاقًا إلى الخلاص منها.
يَشي بذلك إدراكه المبكّر لجوهر الصراع في المنطقة والوظيفة الحضارية لإسرائيل. وأيضًا وعيه العميق بدور قناة السويس ليس على المستوى الاستراتيجي أو الاقتصادي فحسب، بل على المستوى الرمزي، ومن ثم تلهّفه على تأميمها على الرَّغم من المخاطر المحدقة؛ لأنّ فعل التأميم لم يستهدف مجرّد عائدٍ ماديّ ولا حتى سياسي، بل كان فعل تحرّر كامل من ذلك النوع الوجودي الذي يُعيد تأسيس الذات الحضارية، إذ غيّر قرار التأميم وما تبعه من ملابسات ديبلوماسية وسياسية من طبيعة النظام الدولي القائم، وأدّى حسب العظيم جمال حمدان في كتابه الرائع "استراتيجية الاستعمار والتحرير"، إلى توقيف موجة الاستعمار وتدشين موجة التحرير في التاريخ السياسي العالمي.
دافع عن حق وطنه وأمّته والإنسانية ضدّ هيمنة الغرب
اختلف الناس حول ناصر، رآه البعض عسكريًا متهوّرًا، دفع مصر إلى أتون صراعات وحروب من دون تعقّل، متجاهلين روحانية البطل التي تدفع الأحرار إلى قتال الآلهة أنفسهم. كما تحكي الميثولوجيا اليونانية عن البطل الإغريقي بروميثيوس الذي تحدّى قرار زيوس، الرئيس المستبدّ لمجمع الآلهة، فسرق جمرةً من نار المعرفة المقدّسة وأعطاها للبشر. وهنا اشتد غضب زيوس على بروميثيوس فشدّه بالأغلال وسلّط عليه نسرًا يرعى كبده في النهار حتى إذا طلع اليوم الثاني عادت كبد بروميثيوس لتنبت من جديد، وعاد النسر ليفترسها... وهكذا حتى جاء البطل الإغريقي الأشهر "هيراكليس" ليحرّره. لا تَني الأسطورة في تأكيد إمكانية انتصار الإنسان على تجهّم القدر وسطوة الأعداء، طالما انحاز إلى المثل الكبرى للحياة كالعِلم والعدل والحرية، فإذا مات أحد أبطال الإنسانية بُعث في سواه، ملهمًا ومحفّزًا لمن والاه... ولم يكن عبد الناصر سوى ذلك الطراز الرفيع من الإنسان، بطلًا حقيقيًا دافع عن حقّ وطنه وأمته والإنسانية بصدق، معتصمًا بكرامته وإرادته، ضدّ هيمنة غربٍ وضع نفسه في موضع الأقدار.
وفي الداخل، كان عبد الناصر بطلًا أسطوريًا من نوعٍ آخر، إذ لعب دور "روبن هود" في التاريخ الشعبي الإنكليزي، لكنّه وعكس هود الذي جمع بين المتناقضات، فكان سارقًا وزاهدًا معًا، يسرق الأغنياء كي يعطي الفقراء، كان بطلًا كاملًا، متّسقًا مع نفسه دائمًا، أحبّ المصريين العاديين حبًّا لم تداخله بذرة شكّ أو ذرّة نفاق، فأخذ يحنو عليهم كما لم يفعل أحد قبله أو بعده. أدرك أنّه بالأساس رئيس للبسطاء من الفلّاحين والعمال قبل غيرهم، ثار على الاحتلال والقصر والإقطاع لأجلهم. ولأنّه كان بسيطًا مثلهم، فقد أراد العيش كما يعيشون، مُتقشّفًا في مسكنه وفي غذائه، وفي نمط حياته الذي لم يتعدَّ مستوى موظف من الطبقة الوسطى، يقترض لزواج ابنته كما يقترض عموم الناس، ويستكثر على نفسه تشييد حمّام سباحة في منزله (الرئاسي). بل إنّه غادر عالمنا تاركًا أولاده بسطاء من دون ميراث يذكر، كما لم يفعل حاكم في تاريخ العرب الطويل، ربّما منذ عمر بن الخطاب.
سلك مع المصريين مسلك أب دفع ثمن أبوّته ومع العرب مسلك الأخ الكبير الذي لا يتوانى عن مواجهة التحدّيات
ولهذا يحلو لي وصفه بالمُعادل الحداثي للفاروق، وهو أمر يبدو صادمًا لجمهور الإخوان المسلمين الذين يرون ناصر معاديًا للإسلام، على الرَّغم من انتصاره للتديّن المصري السمح، ولقيم الإسلام الحضاري التي تجعل الدين في خدمة الإنسان، فيما حاول المُتأسلمون ولا يزالون توظيف ظاهر النصوص لصالح مشروع سياسي يمتطي ظهر الإسلام والإنسان معا.
وعلى الرَّغم من اعترافي بحكمه الأبوي، فإنّه سلك مع عموم المصريين مسلك أب حقيقي، دفع ثمن أبوّته لهم قبل أن يحصل على استحقاقاتها منهم. كما سلك مع العرب مسلك الأخ الكبير الذي لا يتوانى عن مواجهة التحدّيات مهما كانت كلفتها، ولذا سكن ضميرهم الجمعي، يتذكّرونه ويرفعون صورته عند كلّ أزمة كبرى ولحظة مربكة، فما أحوجنا إليه اليوم.
(خاص "عروبة 22")