تقدير موقف

السويداء ومأساة الرهان على إسرائيل!

ما زالت تداعيات أحداث تموز الماضي الدموية في السويداء جنوب سوريا، تتواصل على الرَّغم من المبادرة التي صدرت لمعالجة الوضع في المدينة بمشاركة ممثلين عن الحكومة السورية والأردن والولايات المتحدة، وتضمّنت خطواتٍ عمليةً على طريق الحلّ، منها استعادة الحياة الطبيعية إلى السويداء ومحيطها، ومحاسبة المتورّطين في الأعمال الإجرامية أثناء الأحداث، وإعادة بناء ما دمّرته المواجهات، وتعويض الضحايا.

السويداء ومأساة الرهان على إسرائيل!

ولئن أعلن بعض سكان السويداء وفعّاليات رئيسية فيها موافقته على المبادرة وبعضهم وافق مع اعتراضاتٍ تفصيليةٍ، فإنّ الشيخ حكمت الهجري زعيم طائفة الموحّدين الدروز في سوريا وأتباعه رفضوا المبادرة، وأعلنوا إصرارهم على موقفهم المُعلن في السير إلى ما أسموه حقّ تقرير المصير، والاتجاه نحو إقامة كيانٍ مستقلٍ للدروز في جنوب البلاد. وهو الهدف الذي جرى إعلانه قبل أسابيع، وأُعيد التأكيد عليه في حملةٍ ما زالت تتواصل وتجمع توقيعاتٍ شعبيةً من أجل حقّ تقرير المصير وكيان مستقل، إضافةً إلى تنظيم مظاهرات، كانت آخرها في السويداء وبعض بلداتها.

المراهنة على الدعم الإسرائيلي تبدو بمثابة انتحار

اختلاف أهالي السويداء في موضوع تقرير المصير وإقامة كيان مستقل، يكرّس خلافًا في بيئةٍ بدت قويةً وشبه موحّدةٍ في مواجهة ما حلّ في السويداء وتطوّراتها من صدامات ومعارك ودمار فيها جرائم وانتهاكات، يُفترض محاسبة القائمين بها والداعمين لها، وقيام الحكومة بإجراءات سريعة، تمنع الذهاب إلى الأسوأ. لكنّ التطورات كانت أقلّ من ذلك، ممّا زاد في غضب أهالي السويداء، خاصةً وسط سكوتٍ عامٍّ في أغلب المناطق السورية حيال ما أصابهم، فاتجه أغلبهم إلى تأييد موقف الشيخ الهجري في ذهابه إلى الأبعد في إعلان العداء لحكومة دمشق، والتوجّه للمراهنة على دعمٍ إسرائيلي – أميركي – غربي، والسير نحو انفصال عن سوريا، معتمدًا على سندٍ داخليّ غير معلن من الإدارة الذاتية في شمال شرق الفرات ومن أوساط ناقمة في الساحل السوري.

وإذا كانت مراهنة الشيخ الهجري ومؤيديه على مساندة الإدارة الذاتية وبعض من الساحل مفهومة، ويمكن نقاشها باعتبارها "مسألةً داخليةً"، فإنّ المراهنة على الدعم الخارجي وخاصةً الإسرائيلي، تبدو بمثابة انتحار. إذ هو خروج لا عودة فيه حيال ثلاث دوائر تُحيط بالمجموعة من الموحّدين الدروز:

الأولى، انقسام عمودي في الدائرة المركزية التي ينتشرون فيها، أعني مدينة السويداء ومحيطها اللّذَيْن جمعتهما الخسارة الواحدة والغضب المشترك ممّا حصل، ما يضرب أساس توجّههم إلى تقرير مصير موحّد أو قويّ، ويجعل سعيهم إلى كيانٍ مستقلٍ في الجنوب السوري مستحيلًا من زاويا متعدّدة.

والثانية لها تأثير سلبي عميق على توجّهات الهجري نتيجة تنوّع موقف الموحّدين الدروز الموزّعين في مناطق سورية أبعد من السويداء، أكبرها في محيط دمشق في جرمانا وصحنايا، وقسم آخر في قرى الجولان المحتل وأخرى قريبة منه، وقسم ثالث منتشر في مناطق الشمال الغربي في جبل السمّاق ومحيطه، وفيهما 18 قرية، ويُعارض أغلب أبناء الدائرة توجّهات الهجري.

العلاقة مع الإسرائيلي تُناقض الإرث الوطني والقومي لعموم الدروز في سوريا ولبنان والأردن

والدائرة الثالثة المؤثّرة هي اختلاف موقف الموحّدين الدروز في بلدان الجوار، وأكثريتها تختلف لأسبابٍ متعدّدةٍ وأخرى مشتركةٍ مع التوجّه نحو تقرير المصير وفكرة الكيان المستقل. وجزءٌ رئيس منها لديه حذر مُعلن وخاصةً في موضوع العلاقة مع الإسرائيلي، التي تُناقض الإرث الوطني والقومي لعموم الدروز في سوريا ولبنان والأردن، وهذا ما شدّد عليه الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، بل إن شيخ الموحّدين الدروز في إسرائيل موفق طريف، عاد وأكد أفضلية ذهاب الهجري إلى حلٍّ في إطار سوريا، ممّا يعني ضمنًا معارضة مسار تقرير المصير والكيان المستقل.

حالة الغضب والشعبوية التي تصاعدت جرّاء ما حدث وبعض تداعياته، وضعف التجربة السياسية للصاعدين إلى سدّة القيادة والقرار في السويداء، وسعي إسرائيل للدخول إلى منظومة العلاقة بين مكوّنات الجماعة الوطنية في سوريا من بوّابة ما جرى، غطّت جميعها على إرثٍ من تجارب وسياسات إسرائيل ومساعيها للتسلّل إلى الداخل العربي، وحالاتٍ من استدعاء عربي لإسرائيل لتكون طرفًا في الصراعات العربية البينيّة سواء بين البُلدان أو بين أطرافٍ داخلها.

ويستدعي واقع الحال السوري وفي السويداء خاصةً، إشاراتٍ سريعةً إلى أمثلةٍ ممّا سبق، خدعت فيها إسرائيل حكومات وكيانات وتجارب عربية، وأخذتها إلى توافقاتٍ مع مصالح إسرائيل منها مسارات التسوية وخاصةً المسارات الأولى مع مصر والأردن والفلسطينيين، التي خرج فيها الجميع من دون إنجازاتٍ حقيقيةٍ، باستثناء أنّها أدّت إلى تغذية الصراعات العربية بدل أن تحلّ الصراع العربي - الإسرائيلي، وتذهب إلى تسوياتٍ عادلةٍ في المنطقة، تأخذها إلى سلام وتنمية ومستقبل أفضل.

العجز عن قراءة الواقع قراءة صحيحة يقود إلى تكرار مأساة ستكون في المرّة الجديدة أسوأ

ومضت إسرائيل على درب الخديعة ذاتها في تغذية الصراعات الداخلية بين تشكيلاتٍ وكياناتٍ في الداخل العربي بينها صراعات بين الجماعات الفلسطينية مثل صراعات فتح وحماس، وخلافات الحكومة الفلسطينية التي تمثّل الأولى ومنافستها التي كانت تُدير غزّة، وثمّة أمثلة قريبة في الخداع الذي مارسته إسرائيل في لبنان في عقود الحرب اللبنانية، فيها تمّت تغذية صراعات الطوائف المسيحية - الاسلامية والصراعات السنية - الشيعية، وتجربة ميليشيات الجنرال أنطوان لحد الذي لعب دور القبضة الإسرائيلية، مثالٌ تمّ التخلي عنه عندما تطلّبت مصالح إسرائيل قرارًا مختلفًا.

إن العجز عن قراءة الواقع قراءةً صحيحةً، والاستناد إلى أوهام وشعارات غير واقعية، وعدم قراءة التجارب السابقة في المحيط، والتدقيق في نتائجها، يقود إلى تكرار أعمال وتجارب كانت في المرّة السابقة مأساة، وستكون في المرّة الجديدة أسوأ، وهذه بعض خُلاصات التاريخ عامةً وفي سوريا أيضًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن