فلسطين وموجة الاعتراف الغربي

يمثل اعتراف بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا بالدولة الفلسطينية لحظة مؤثرة في مسار القضية الفلسطينية وفي السياسة الإقليمية والدولية المرتبطة بها. فبعد عقود من التردد الغربى بين خطاب دعم "حل الدولتين" وبين واقع عملي يكرس الاحتلال الإسرائيلي للأراضى الفلسطينية، تأتي هذه الخطوة لتفتح نافذة جديدة في مشهد سياسي مثقل بالحروب والأزمات، وخصوصا في ظل حرب الإبادة في غزة، والانتهاكات الإسرائيلية المتكررة في الضفة الغربية، والتوتر المستمر على الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية.

أولًا: البعد الرمزي والسياسي

أهمية الاعتراف لا تكمن فقط فى الاعتراف القانوني ــ الذي لا يغير موازين القوى على الأرض بصورة مباشرة ــ بل في الرسالة السياسية التي يبعث بها إلى المجتمع الدولي. فبريطانيا وفرنسا دولتان مؤسستان للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وعضوان دائمان في مجلس الأمن، كما أن أستراليا وكندا جزء من التحالف الغربي العابر للقارات. اعتراف هذه الدول يعني أن "إجماع الغرب" الذي طالما اصطف خلف الموقف الأمريكي ــ الإسرائيلي يتعرض لتآكل تدريجي. من الناحية الرمزية، يضع الاعتراف الرواية الفلسطينية على الخريطة السياسية الدولية، ويعيد الاعتبار لفكرة أن الاحتلال الإسرائيلي ليس قدرًا أبديًا، وأن للشعب الفلسطيني حقًا في تقرير مصيره.

ثانيًا: الأثر المباشر على الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي

رغم أن الاعتراف لا يوقف آلة الحرب الإسرائيلية في غزة ولا يوقف الاستيطان في الضفة الغربية، إلا أنه يضعف شرعية الممارسات الإسرائيلية على المستوى الدولي. إذ باتت حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل تواجه اليوم بيئة دولية أكثر نقدًا ومعارضة. لم تعد إسرائيل محصنة دبلوماسيًا كما كانت خلال العقود الماضية. كما أن الاعتراف يقوى موقع السلطة الفلسطينية، رغم ضعفها البنيوي، ويفتح أمامها مجالات أوسع للحضور الدبلوماسي، سواء في الأمم المتحدة أو في المنظمات الدولية المتخصصة. وهذا يعزز إمكانية مساءلة إسرائيل قانونيًا، وإن بقى الأمر مرهونًا بميزان القوى في المؤسسات الدولية.

ثالثًا: الانعكاسات الإقليمية

على الصعيد العربي، يوفر الاعتراف دعمًا معنويًا وسياسيًا للحكومات التي ما زالت متمسكة بخيار حل الدولتين، وفي مقدمتها مصر والأردن والسعودية. فالقاهرة وعمان، اللتان تتشاركان حدودًا مباشرة مع فلسطين وتتحملان كلفة إنسانية وأمنية عالية من استمرار الاحتلال، تستطيعان اليوم القول إن الموقف العربي لم يعد وحيدًا أو معزولًا. في المقابل، يضع الاعتراف بعض الحكومات الصديقة للدول العربية في الجنوب العالمي، والتي اندفعت في مسار التطبيع مع إسرائيل، أمام معادلة جديدة: كيف تبرر استمرار التطبيع بينما يتزايد الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة تحت الاحتلال؟ هذا التناقض قد يفرض على تلك الدول مراجعة خطابها السياسي، وإن لم يصل إلى حد التراجع عن التطبيع.

إقليميًا أيضًا، يعيد الاعتراف الدولي بفلسطين الاعتبار للدبلوماسية في الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، ويضعف قدرة أنصار الحلول العسكرية والصفرية على الادعاء بكونهم الصوت الوحيد الداعم لفلسطين.

رابعًا: ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية

جاء الرد الإسرائيلي سريعًا وغاضبًا. فقد اعتبرت حكومة نتنياهو أن الاعتراف "مكافأة للإرهاب"، وذهبت بعض الأصوات في اليمين المتطرف إلى التلويح بإجراءات انتقامية ضد السلطة الفلسطينية والدول التي اتخذت قرار الاعتراف. هذا الغضب يعكس خشية حقيقية من أن تكون الخطوة مقدمة لتغيرات أوسع في البيئة الدولية، خاصة إن لحقت بها دول أوروبية أخرى كإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا.

أما الموقف الأمريكي فكان أكثر تعقيدًا. واشنطن لم ترحب ولم تعترف، لكنها في الوقت نفسه لم تهاجم حلفاءها الغربيين الذين أقدموا على الاعتراف. وهذا يعكس إدراكًا أمريكيًا لتآكل القدرة على فرض "الفيتو السياسي" على المواقف الدولية من القضية الفلسطينية. الإدارة الأمريكية تبدو عالقة بين ضغوط اللوبي المؤيد لإسرائيل في الداخل، وبين واقع دولي يتغير تدريجيًا.

خامسًا: التداعيات على ميزان القوى الدولي

إلى جانب البعد الإقليمي، يجب النظر إلى الاعتراف من زاوية التحولات في النظام الدولي. فالعالم يشهد اليوم تراجعًا في الهيمنة الأمريكية، وصعودًا لأصوات من الجنوب العالمي تطالب بإصلاح النظام الدولي، سواء في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية. والاعتراف الغربي بفلسطين مؤشر على أن بعض مراكز القوى في الشمال العالمي بدأت تتحرك، ولو ببطء، في اتجاه يتجاوب مع مطالب الجنوب.

هذا لا يعني أن العدالة باتت قاب قوسين، لكنه يعني أن "المقدسات السياسية" في الغرب التي حمت إسرائيل لعقود بدأت تهتز. وفي لحظة دولية تتسم بالحروب في أوكرانيا وأزمات الطاقة والمناخ والهجرة، فإن القضية الفلسطينية تعود لتكون معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا يقاس به صدق الغرب في الدفاع عن قيم حقوق الإنسان. مع ذلك، يظل الاعتراف خطوة غير كافية ما لم تتبعها إجراءات عملية. فإسرائيل ما زالت تسيطر على الأرض، وتواصل مشروعها الاستيطاني، وتمارس سياسات تهجير ممنهج في غزة والضفة. وبدون ضغط دولي حقيقي يربط الاعتراف بآليات تنفيذية ــ كالعقوبات الاقتصادية، أو تقييد التجارة العسكرية مع إسرائيل، أو دعم مسارات العدالة الدولية ــ سيبقى الاعتراف في الإطار الرمزي أكثر منه في الإطار العملي.

وفى السياق العربي، يبقى الرهان على قدرة الحكومات والمجتمعات المدنية على توظيف هذه اللحظة لتعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، ولإعادة بناء توافق عربي يضع فلسطين في قلب الأولويات، بعيدًا عن الانقسامات البينية والحروب الأهلية التي مزقت المشرق والمغرب. اعتراف بريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا بدولة فلسطين لا ينهي الاحتلال ولا يوقف الحروب، لكنه يفتح نافذة أمل ويؤسس لتوازن جديد في المشهد الدولي.

هو اعتراف بأن الشعب الفلسطيني موجود، وأن حقه في تقرير المصير لا يمكن طمسه. وهو في الوقت نفسه دعوة للحكومات العربية والمجتمع الدولي إلى أن يتحركا بما يتجاوز الرمزية إلى الفعل، بما يعيد الاعتبار لحل عادل وشامل يقوم على إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق المشروعة للفلسطينيين. بهذا المعنى، يمثل الاعتراف خطوة في مسار طويل ومعقد، لكنه قد يكون الشرارة التى تدفع أطرافًا دولية أخرى إلى إعادة النظر في مواقفها، وربما إلى تبني سياسات أكثر إنصافًا. أما في الشرق الأوسط، فهو يضيف طبقة جديدة إلى شبكة التفاعلات الإقليمية، بين دعم فلسطيني متجدد، وغضب إسرائيلي متصاعد، ومواقف عربية متباينة، وانتظار مفتوح لمستقبل لا يزال رهنًا بتوازنات القوى والصراع.

(الشروق المصرية)

يتم التصفح الآن