تقدير موقف

عالم عربي مأزوم بعوامل ضعفه.. وعوامل قوته!

أي نظرة أو مراجعة لحالة العالم العربي السياسية والاقتصادية التي أدّت إلى فرض هيمنة استعمارية كاملة عليه، صادرت قراره وفتحت بلدانه للاستباحة والعربدة الإسرائيلية، يدفعُ السؤال المُرّ للوقوف في الحلق: كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العجز والكُساح الشامل؟ وهو كُساح لا يستثني أحدًا... الدول المتماسكة مثل المفكّكة، والقوية عسكريًا مثل الضعيفة، والغنية التي تملك ثرواتٍ هائلةً ونفوذًا ماليًا كبيرًا مثل الفقيرة التي تعيش على المساعدة والاستدانة.

عالم عربي مأزوم بعوامل ضعفه.. وعوامل قوته!

كيف يمكن فهم هذه الحالة المزرية، وأهمّية إعادة بناء نظام عربي حقيقي وقادر على تلبية احتياجات الشعوب وحماية الأمن القومي العربي، بينما المفاهيم مُتنازع عليها، والمصالح البينية مُتعارضة، والجميع يعتقد أنّه يمكنه جلب الحماية بتفاهماتٍ مع قوى مُستورَدة من خارج الإقليم وكأنه استبعاد لأي أمل في عمل عربي مشترك؟.

الاستعمار رسم الحدود وأجهض أي مشروع وحدوي ثم جاء الاستبداد الداخلي ليُكمل المهمة

يعيش العالم العربي واحدةً من أعقد أزماته التاريخية. فعلى الرَّغم ممّا يملكه من ثروات هائلة، وموقع استراتيجي فريد، وقدرات بشرية ضخمة، إلّا أنّه غارق في حالةٍ من العجز والكُساح السياسي الشامل. المفارقة أنّ هذه الثروات التي كان يمكن أن تصنع نهضةً واستقلالًا، تحوّلت إلى عبءٍ إضافيّ جعل القوى الخارجية أكثر حرصًا على السيطرة والهيمنة.

منذ قرنٍ على الأقل، والعرب يتنقّلون من استعمارٍ مباشرٍ إلى تبعيةٍ غير معلنة. الاستعمار القديم رسم الحدود وأجهض أي مشروع وحدوي، ثم جاء الاستبداد الداخلي ليُكمل المهمة، فصادر السياسة، وأقصى الشعوب، وجعل القرار مُرتهنًا للخارج. ومع كل أزمةٍ تُفتح الأبواب لتدخّلات دولية تتحكّم أكثر وأكثر في مصير المنطقة.

الضعف يجرّ الوصاية... والنظام العربي بدا عاجزًا عن إدارة أزماته بنفسه. العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، لبنان، السودان، الصومال... كلّها أزمات عربية بامتياز، لكنّ مفاتيح الحلّ ليست في العواصم العربية، بل في واشنطن وموسكو وأنقرة وطهران وتل أبيب.

المصلحة العربية المشتركة قاعدة لأي مشروع والتكامل الاقتصادي يُعيد إنتاج القوة

الهشاشة الداخلية جعلت القرار العربي رهينةً للضغوط الخارجية. فلا قدرة على حماية السيادة، ولا قدرة على فرض الأولويات. حتى قضايا الأمن القومي الكبرى مثل فلسطين أو المياه أو الأمن الغذائي، خرجت من اليد العربية وأصبحت رهينة تفاهمات مع قوى غير عربية.

الأزمة كما بدأنا لا تقتصر على الدول الضعيفة والممزّقة. فحتى الدول الغنية ذات الفوائض المالية الضخمة وقوة النفوذ في الغرب، لم تَسْلَم من العجز. النفط والغاز تحوّلا إلى أداة ابتزازٍ بدلًا من أن يكونا أساس نهضةٍ صناعيةٍ عربية. المليارات العربية في المصارف الغربية دعمت اقتصادات الآخرين بدلًا من أن تبنيَ سوقًا عربيةً متكاملةً، فيما لم تبنِ لنفسها نفوذًا حقيقيًا ومؤثّرًا في البلدان التي تستفيد من الفوائض العربية الهائلة، كذلك الموقع الجيوسياسي صار ساحة قواعد أجنبية لا نقطة ارتكاز للقرار العربي المستقلّ.

النتيجة طبيعية جدّا... الأرض العربية باتت مُستباحة. إسرائيل تمارس عربدةً غير مسبوقةٍ في فلسطين والمنطقة، تقصف العواصم العربية من الدوحة شرقًا إلى تونس غربًا، مدعومةً بالانقسام العربي.

ضعفنا يفتح أبواب التدخل وقوتنا المهدورة تذهب فوائضها إلى الآخرين ولا تكبحهم عن الاستباحة والصلف

القوى الكبرى تجد في ضعف العرب فرصةً دائمةً للتدخّل والسيطرة. حتى إنّ بعض الدول العربية باتت تعتبر أنّ الحماية تأتي فقط عبر تفاهمات ثنائية مع قوى أجنبية، لا يحرّكها الفزع والمخاوف بعد ضربة الدوحة الغادرة إلى البحث الحقيقي عن مواطن الخلل وأهمّها الفردانيّة التي تنظر للحدود الوطنية باعتبارها قدس أقداس الأمن، من دون اكتراثٍ بالدوائر الحيوية، فاتجهت، تحت وطأة صدمة أنّ الحماية الأميركية غير فعّالة عندما يكون الخطر إسرائيليًا، إلى استيراد حماية أخرى من خارج الإقليم أيضًا، مع إفشال كلّ جهد ولو ضئيل لبناء تماسكٍ عربيّ وآليةٍ موحّدةٍ لبناء أمن عربي مستدام واضح المفهوم ومستوعب للأخطار المركزية الحقيقية والمستحقّة للاهتمام.

الخروج من هذه الدائرة المُفرغة يبدأ بالاعتراف بأنّ العمل العربي المشترك لم يعد ترفًا، بل شرط بقاء، وإعادة تعريف المصلحة العربية المشتركة باعتبارها قاعدةً لأي مشروع، وإعادة صياغة مفهوم الأمن القومي العربي ليشمل إلى جانب العسكري والسياسي... الاقتصادي والمائي والغذائي والرقمي، وبناء صيغ تكامل اقتصادي مرنة تُعيد إنتاج القوة، وتحدّ من الارتهان لأسواق الخارج. والأهمّ تحييد الخلافات البينية عبر آليات عربية، تمنع التدويل وتُعيد القرار إلى الداخل.

إمّا أن يواصل العرب الدوران في الحلقة المفرغة وإمّا أن يستعيدوا زمام المبادرة ببناء نظام قادر على حماية نفسه

تلك ليست خطبًا منبريةً أو شعارات "ستينيّاتية"، لكنّها تعبير عن حاجةٍ ملحةٍ ومصيريةٍ، فالأزمة العربية اليوم هي نتاج جدلية مؤلمة: نحن مأزومون بضعفنا، ومأزومون بقوتنا. ضعفنا يفتح أبواب التدخل، وقوتنا المهدورة تذهب فوائضها إلى الآخرين، ولا تكبحهم عن الاستباحة والصلف.

إمّا أن يواصل العرب الدوران في هذه الحلقة المفرغة فيخسرون ما تبقّى من استقلال وكرامة، وإمّا أن يستعيدوا زمام المبادرة ببناء نظام عربي قادر على حماية نفسه، وردع الطامعين فيه، وتلبية احتياجات شعوبه.

إنّها ليست مسألة رفاهية سياسية، بل مسألة وجود: أن نكون أو لا نكون.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن