الجِندَر، بِوَصْفِهِ إِطارًا تَحْليلِيًا، لا يَقْتَصِرُ على قَضايا النِّساءِ أَوِ المُساواةِ القانونِيَّة، بَلْ يُعيدُ مُساءَلَةَ أَنْماطِ السُّلْطة، وتَقْسيمِ العَمَلِ الاجْتِماعِيّ، والعَلاقَةِ بَيْنَ الدَّوْلَةِ والمَعْرِفَة. ومِنْ ثَمَّ، فَإِنَّ الجَدَلَ حَوْلَ تَدْريسِهِ يَكْشِف، في جَوْهَرِه، عَن تَوَتُّرٍ عَميقٍ بَيْنَ نُظُمٍ تَعْليمِيَّةٍ تَميلُ إلى الاسْتِقْرارِ والمُحافَظَة، ومَعرِفَةٍ نَقْدِيَّةٍ تَفْرِضُ التَّغْييرَ والمُساءَلَة.
جزء كبير من المعرفة النسوية في المنطقة ظلّ محصورًا في مبادرات بحثيّة فردية أو مراكز مستقلة
تُشيرُ التَّطَوُّراتُ التَّعْليمِيَّةُ في عَدَدٍ مِنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ إلى نَجاحٍ نِسْبيٍّ في تَقْليصِ "الفَجْوَةِ الجِنْدَريَّةِ" في مُؤشِّراتِ الالْتِحاقِ بِالتَّعْليم، بَلْ وتَفَوُّقِ النِّساءِ في بَعْضِ مَراحِلِ التَّعْليمِ العالي. غَيْرَ أَنَّ هَذا التَّقَدُّمَ الكَمِّيَّ لَم يَتَحَوَّلْ إلى تَحَوُّلٍ نَوْعِيٍّ في مَضْمونِ المَعْرِفَةِ أَو في الأُطُرِ المَفاهيمِيَّةِ التي تَحْكُمُ المَناهِج. فَما زالَتْ قَضايا الجِنْدَرِ تُقَدَّم، حينَ تُقَدَّم، في صِيغَةٍ تَوْصيفِيَّةٍ أَو مِعْيارِيَّة، مُنْفَصِلَةٍ عَن سِياقِها التّاريخيِّ والاجْتِماعِيّ، ومِن دونِ دَمْجِها في مَناهِجِ التَّفْكيرِ النَّقْديِّ أَو في تَحْليلِ البُنى الاجْتِماعِيَّةِ والاقْتِصادِيَّةِ التي تُنْتِجُ اللّامُساواة.
في هَذا الإِطار، يَكْتَسِبُ تَقْريرُ مُنَظَّمَةِ المَرْأَةِ العَرَبِيَّةِ حَوْلَ "خارطَةِ إِنْتاجِ المَعْرِفَةِ النِّسَوِيَّة" أَهَمِّيَّةً مُضاعَفَة، لأَنَّهُ يَنقُلُ النِّقاشَ مِن سُؤالِ التَّدْريسِ إلى سُؤالِ المَعْرِفَة. فالتَّقْريرُ يَكْشِفُ أَنَّ الإِشْكالَ المَرْكَزِيَّ لا يَكْمُنُ في غِيابِ الكِتابَةِ النِّسَوِيَّةِ أَو الجِنْدَرِيَّة، بَلْ في طَبيعَةِ هَذا الإِنْتاج: تَشَتُّتِه، مَحْدودِيَّةِ تَأْثيرِهِ المُؤَسَّسِيّ، وانْفِصالِهِ النِّسْبيِّ عَن مَنْظوماتِ التَّعْليمِ الرَّسْميَّة. كَما يُبْرِزُ أَنَّ جُزْءًا كَبيرًا مِنَ المَعْرِفَةِ النِّسَوِيَّةِ في المِنْطَقَةِ ظَلَّ مَحْصورًا في مُبادَراتٍ بَحْثِيَّةٍ فَرْدِيَّةٍ أَوْ مَراكِزَ مُسْتَقِلَّة، مِن دونِ أَن يَتَحَوَّلَ إلى حَقْلٍ مَعْرِفيٍّ مُسْتَقِرٍّ داخِلَ الجامِعات.
تدريس الجندر في الحالة الأوروبية مُرتبط ببنية معرفية تعترف بدور الجامعة كمجال للنقد وإعادة إنتاج المعرفة
هذا الوَضْعُ يَنْعَكِسُ مُباشَرَةً على تَدْريسِ الجِنْدَر، الذي غالِبًا ما يَتِمُّ إِمّا في إِطارِ مَساقاتٍ اخْتِيارِيَّةٍ هامِشِيَّة، أَو عَبْرَ اسْتيرادِ نَظَرِيّاتٍ جاهِزَةٍ مِن دونِ جُهْدٍ كافٍ لِإِعادَةِ تَأْطيرِها مَعْرِفِيًّا في السِّياقِ العَرَبِيّ. والنَّتيجَةُ هِيَ فَجْوَةٌ مُزْدَوَجَة: فَجْوَةٌ بَيْنَ البَحْثِ والتَّدْريس، وفَجْوَةٌ بَيْنَ المَعْرِفَةِ الأَكاديمِيَّةِ والواقِعِ الاجْتِماعِيّ. وهيَ فَجْوَةٌ لا يُمْكِنُ فَهْمُها بِمَعْزِلٍ عَن السِّياقِ السِّياسيِّ والثَّقافِيّ، حَيْثُ يُنْظَرُ إلى الجِنْدَرِ في الكَثيرِ مِنَ الأَحْيانِ بِاعْتِبارِهِ خِطابًا إِشْكالِيًّا أَو مُهَدِّدًا لِلتَّوازُناتِ الاجْتِماعِيَّة، لا أَداةَ تَحْليلٍ عِلْمِيّ.
عِنْدَ المُقارَنَةِ مَعَ الحالَةِ الأوروبِّيَّةِ على سَبيلِ المِثالِ، تَتَّضِحُ الفُروقُ البُنْيَوِيَّةُ لا الإِجْرائِيَّة. فَفي السِّياقِ الأوروبِّيّ، لَم يَعُدِ الجِنْدَرُ يُعامَلُ كَحَقْلٍ تَخَصُّصِيٍّ ضَيِّق، بَلْ كَمَنْهَجٍ تَحْليلِيٍّ عابِرٍ لِلتَّخَصُّصات، يُدْمَجُ في العُلومِ الاجْتِماعِيَّةِ والطَّبيعِيَّة، وفي سِياساتِ التَّعليمِ والتَّقييمِ المُؤَسَّسِيّ. الأَهَمُّ مِن ذلك أَنَّ تَدْريسَ الجِنْدَرِ هُناكَ مُرْتَبِطٌ بِبُنْيَةٍ مَعْرِفِِيَّةٍ تَعْتَرِفُ بِدَوْرِ الجامِعَةِ كَمَجالٍ لِلنَّقْدِ وإِعادَةِ إِنْتاجِ المَعْرِفَة، لا فَقَط كَأَداةٍ لِإِعْدادِ سُوقِ العَمَلِ أَو تَرْسيخِ القِيَمِ القائِمَة. هذا الاعْتِرافُ المُؤَسَّسِيُّ هُوَ ما يَسْمَحُ بِتَحْويلِ الجِنْدَرِ مِن "مَوْضوعٍ خِلافِيٍّ" إلى أَداةٍ لِفَهْمِ التَّحَوُّلاتِ الاجْتِماعِيَّة.
في المُقابِل، تَكْشِفُ الحالَةُ العَرَبِيَّةُ عَنِ اسْتِمرارِ تَصَوُّرٍ وَظيفِيٍّ لِلتَّعْليم، يَحُدُّ مِن قُدْرَتِهِ على استيعابِ المَعْرِفَةِ النَّقْدِيَّة. فالمَناهِجُ تُصاغُ غالِبًا بِهَدَفِ الحِفاظِ على الانْسِجامِ الاجْتِماعِيّ، لا مُساءَلَتِه، وهوَ ما يَجْعَلُ إِدْماجَ الجِنْدَرِ مَشْروطًا بِتَخْفيفِهِ مِن مُحْتواهُ التَّحليلِيّ. ومِن هُنا، فَإِنَّ الفَرْقَ بَيْنَ التَّجْرِبَتَيْنِ لا يَكمُنُ في دَرَجَةِ التَّحَرُّرِ الثَّقافِيّ، بَلْ في مَوْقِعِ المَعْرِفَةِ النَّقْدِيَّةِ داخِلَ النِّظامِ التَّعْليميِّ ذاتِه.
تطوير تدريس الجندر يمرّ عبر إعادة التفكير في العلاقة بين الجامعة والمجتمع وبين المعرفة والسياسة
تَقْريرُ "خارطَةِ إِنْتاجِ المَعْرِفَةِ النِّسَوِيَّة" يُسَلِّطُ الضَّوْءَ على هَذِهِ النُّقْطَةِ بِوُضوحٍ ضِمْنِيّ، حينَ يَرْبِطُ بَيْنَ ضَعْفِ التَّدْريسِ وغِيابِ بيئَةٍ مُؤَسَّسِيَّةٍ داعِمَةٍ لِإِنْتاجِ المَعْرِفَة. فالجِنْدَرُ لا يُمْكِنُ تَدْريسُهُ بِفَعّالِيَّةٍ في غِيابِ بُنْيَةٍ بَحْثِيَّةٍ مُسْتَقِرَّة، ولا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحوَّلَ إلى أَداةِ تَحليلٍ مِن دونِ اعْتِرافٍ أَكاديميٍّ بِشَرْعِيَّتِهِ المَعْرِفِيَّة. وهذا ما يُفَسِّرُ لِماذا ظَلَّ تَدْريسُ الجِنْدَرِ في المِنْطَقةِ العَرَبِيَّةِ أَقْرَبَ إلى مُبادَراتٍ مَعْزولَة، لا إلى سِياسَةٍ تَعْليمِيَّةٍ مُتَكامِلَة.
مِن هُنا، فَإِنَّ تَطْويرَ تَدْريسِ الجِنْدَرِ لا يَمُرُّ فَقَطْ عَبْرَ تَحْديثِ المَناهِج، بَلْ عَبْرَ إِعادَةِ التَّفْكيرِ في العَلاقَةِ بَيْنَ الجامِعَةِ والمُجْتَمَع، وبَيْنَ المَعْرِفَةِ والسِّياسَة. المَطْلوبُ لَيْسَ اسْتِنْساخَ النَّموذَجِ الأوروبِّيّ، بَلْ الاسْتِفادَةَ مِن مَنْطِقِهِ المُؤسَّسِيّ: أَيِ الاعْتِرافُ بِأَنَّ الجِنْدَرَ جُزْءٌ مِن إِعادَةِ بِنَاءِ العُلومِ الاجْتِماعِيَّة، لا مُلْحَقًا أَخْلاقِيًّا أَو خِطابًا تَنْمَوِيًّا فَقَط.
في المُحَصِّلَة، يَكْشِفُ تَحْليلُ تَدْريسِ الجِنْدَرِ في ضَوْءِ "خَارطَةِ إِنْتاجِ المَعْرِفَةِ النِّسَوِيَّة" عَن أَزْمَةٍ بُنْيَوِيَّةٍ تَتَجاوَزُ التَّعْليمَ إلى سُؤالٍ أَعْمَق: هَل تَمْتَلِكُ المِنْطَقَةُ العَرَبِيَّةُ القُدْرَةَ المُؤسَّسِيَّةَ على اسْتِيعابِ المَعْرِفَةِ النَّقْدِيَّة؟ أَم سَتَظَلُّ هَذِهِ المَعْرِفَةُ مُحاصَرَةً بَيْنَ خِطابٍ رَسْميٍّ حَذِر، وإِنْتاجٍ أَكاديميٍّ غَيْرِ قادِرٍ على التَّحَوُّلِ إلى تَيّارٍ مَعْرِفِيٍّ مُؤَثِّر؟ الإِجابَةُ عَن هَذا السُّؤالِ لا تُحَدِّدُ مُسْتَقبَلَ تَدْريسِ الجِنْدَرِ فَحَسْب، بَلْ تُحَدِّدُ أَيْضًا مُسْتَقبَلَ الجامِعاتِ العَرَبِيَّةِ بِوَصْفِها فاعِلَةً في إِنْتاجِ المَعْرِفَة، لا مُجَرَّدَ ناقِلَةٍ لَها.
(خاص "عروبة 22")

