فشل تجارب التكامل السياسي والاقتصادي العربي يعود بالأساس إلى غياب الرؤية، والإغراق في المثالية السياسية وعدم استحضار المقوّمات الاقتصادية، وعدم القدرة على تجاوز الاختلافات الإيديولوجية، وهو ما حاولت دول عربية تجاوزه بعد فشل مجموعة من التجارب الوحدوية بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث تم تجاوز منطق الوحدة والانصهار السياسي إلى منطق التكتّل الاقتصادي، أسوةً ببعض التجارب الناجحة كالتجربة الأوروبية.
وفي هذا السياق، شهدنا تأسيس تكتّلين اقتصاديين إقليميين عربيين، هما اتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي، حيث أعطيت الأولوية للبُعد الاقتصادي، إلا أنّ مجموعة من الأحداث السياسية التي أعقبت هذا التأسيس عطّلت كليًا أو جزئيًا هذين التكتلين، حيث أدّت الخلافات الأيديولوجية وتضارب المصالح الإقليمية، على سبيل المثال بين المغرب والجزائر، إلى تعطيلٍ شبه كلّي للاتحاد الذي أنشئ سنة 1989 بمراكش، وبلغت هذه الخلافات حدّ القطيعة بين البلدين، وهو الأمر الذي كان له بالغ الأثر على التعاون الاقتصادي البيني بين دول المغرب العربي التي تتخبّط في أزمات اقتصادية وسياسة خانقة.
البدائل المتاحة والدروس المستقاة
دفع هذا الوضع الجزائر إلى السعي إلى الانضمام لتكتّلات إقليمية أو دولية قائمة، وهو التوجّه نفسه الذي سعى إليه المغرب، حيث اختار التدرّج في سعيه إلى الانضمام إلى هذه التكتّلات، وهو ما اقتضى في مرحلة أولى محاولة خلق تكتّل بديل مع مصر وتونس والأردن والإمارات العربية المتحدة من خلال بوابة اتفاقيات التبادل الحرّ، الأمر الذي لم يلاقِ النجاح المرجو، لتحاول المملكة المغربية بعد ذلك الحصول على وضع الشراكة لدى عدد من التكتّلات، خاصة الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، مما انعكس إيجابًا على المبادلات التجارية البينية، لتتحوّل بعد ذلك نحو القارة الأفريقية، حيث قرّرت العودة للعمل من داخل هياكل الاتحاد سنة 2017، وهي العودة التي كانت لها انعكاسات إيجابية على استثمارات المملكة في القارة الأفريقية التي تجاوزت سقف 4 مليارات دولار، كما مكّنها من خلال بوابة اتفاقية التبادل الحرّ من تعزيز حضورها التجاري داخل القارة.
واكب هذا السعي طموح للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "سيدياو" وهو الطلب الذي لا يزال قيد الدرس، وسعي آخر للانضمام الى عدد من التكتلات الاقتصادية الإقليمية بآسيا وأمريكا اللاتينية، كان آخرها انضمام المغرب مطلع الشهر الجاري إلى تكتل دول جنوب شرق آسيا كـ"شريك للحوار القطاعي".
بالموازاة مع التحرّكات المغربية، سعت الجزائر إلى العمل أيضًا من داخل القارة الأفريقية عبر القنوات التي تتيحها هياكل الاتحاد الأفريقي واتفاقية التبادل الحرّ، وهو ما نجحت من خلاله في تقوية حضورها داخل القارة الأفريقية، لكنها اختلفت عن التوجهات المغربية المتدرّجة بسعيها إلى الانضمام إلى التكتّلات الاقتصادية الدولية، وهو سعي انخرطت فيه بعد سنوات من العمل على إعادة تأهيل الاقتصاد الجزائري حتى يستجيب لمتطلّبات المرحلة، ما شجّع الجزائر على رفع سقف طموحها وتقديم طلب انضمامها إلى مجموعة "بريكس"، وهو الطلب الذي قوبل بالرفض.
إلى متى ستظلّ الدول العربية تتجاهل معطيات التكامل الاقتصادي البيني؟
هذا الردّ المخيّب للآمال، دفع باتجاه استحضار مجموعة من التساؤلات من قبيل، إلى متى سوف تظلّ الدول العربية تتجاهل معطيات التكامل الاقتصادي البيني؟ وإلى متى سوف يظل المحدّد السياسي هو المؤطّر للعلاقات بين مختلف الدول العربية؟ وهل انتهى زمن التكتّلات في المنطقة؟
صعب الجزم بأنّ زمن التكتّلات قد انتهى، بل في السياق الراهن، الشعوب العربية في حاجة مُلحّة إلى تكتّل اقتصادي لمواجهة التحديات المقبلة، المرتبطة أساسًا بالتقلّبات المناخية وانعكاسها على الأوضاع الاقتصادية والتحديات المرتبطة بالسيادة الغذائية وتحوّل المنظومة الطاقية والتكنولوجية.
نحن إزاء تحديات لن نستطيع مواجهتها من خلال العمل من داخل تكتلات لا تستحضر خصوصية المنطقة العربية ولا تجعل المصالح الاستراتيجية لشعوب المنطقة ضمن أولوياتها، لذا وجب إعادة التفكير في محدّدات ومنطلقات العلاقات البينية بين الدول العربية، والسعي لجعل المحدّد الاقتصادي في مقدّمتها، لأنه السبيل الوحيد لتذويب الخلافات واستدراك الزمن التنموي المهدور.
(خاص "عروبة 22")