تعكس هذه الفوارق بوضوح العلاقة بين الاستقرار السياسي والأمني والاستثمار المُمنهج في البنى التحتية السياحية، فضلًا عن وضوح الرؤية الاستراتيجية لدى الدول العربية. فالبلدان التي نجحت في ضمان حدٍّ أدنى من الاستقرار، مثل المغرب وتونس ومصر، استطاعت تحويل السياحة إلى رافعة اقتصادية أساسية، بينما تراجعت دول أخرى مثل ليبيا واليمن وسوريا نتيجة أوضاعها الأمنية الهشّة، ما أبعدها عن الخريطة السياحية العالمية. كما يظلّ الاستثمار في المطارات، والموانئ، وشبكات النقل، والفنادق، والمنتجعات، إضافةً إلى الرقمنة والتسويق المكثّف، عاملًا حاسمًا في قدرة الدول على اجتذاب السياح، في حين يحدّ غياب هذه المقوّمات في دولٍ أخرى من استقطاب الزوار على الرَّغم من غنى الموارد الطبيعية والتراثية.
تشتّت الجهود وعدم استثمار الإمكانات بشكل متكامل
إضافةً إلى ذلك، ساهم اختلاف الرؤى الاستراتيجية بين الدول العربية بشكلٍ كبيرٍ في هذا التباين. المغرب، على سبيل المثال، اعتمد على برامج واضحة المعالم مثل "رؤية 2010" و"رؤية 2020" ثمّ الاستراتيجيّات الوطنية المُحدثة، في حين تبنّت تونس برامج لتنويع المنتج السياحي.
في المقابل، ما زالت بعض الدول الأخرى كالجزائر تعتبر السياحة قطاعًا ثانويًا لم يتمّ دمجه بشكلٍ كاملٍ ضمن السياسات الاقتصادية، ما يضعها في مرتبةٍ أقلّ جاذبيةً مقارنةً بجيرانها الذين نجحوا في استثمار القرب الجغرافي من أوروبا والعمق الحضاري والثقافي.
فرص ضائعة وتحدّيات متراكمة
على الرَّغم من الإمكانات الكبيرة، لا تزال السياحة البينية بين الدول العربية ضعيفةً ومحدودةً، وهو ما يعكس تراكم مجموعة من العوامل البنيوية والسياسية والاقتصادية والثقافية. إنّ غياب رؤية استراتيجية مشتركة وتنسيق عربي فعّال يُمثّل أحد أبرز العوامل، حيث يظلّ التعاون بين الدول في السياسات، والتشريعات، والبرامج الترويجية، ضعيفًا، ممّا يؤدّي إلى تشتّت الجهود وعدم استثمار الإمكانات بشكلٍ متكامل. والنتيجة أنّ كلّ دولة تعمل بمعزلٍ عن جيرانها، مع ما يترتّب على ذلك من تضاربٍ في العروض وضعف جذب السائح العربي الذي يفضّل غالبًا الوجهات العالمية المنظّمة والموحّدة التسويق.
الفرص التنموية التي توفّرها السياحة البينية العربية أُهدرت بشكل كبير
إلى جانب ذلك، تُشكّل العوامل السياسية والأمنية والحدودية عائقًا حقيقيًا أمام السياحة البينية. إذ تلعب سياسات التأشيرات المُعقّدة، وغلق الحدود، والنزاعات السياسية، دورًا محوريًا في تقييد حرية التنقّل. مثال واضح هو العلاقة بين المغرب والجزائر، حيث تُعيق الحدود المغلقة برامج سياحية مشتركة، على الرَّغم من امتلاك البلدَيْن إمكانات سياحية ضخمة متقاربة جغرافيًا وثقافيّا. مثل هذه الفرص المهدورة تمثّل زمنًا تنمويًا ضائعًا يمكن أن يتحوّل إلى قيمة اقتصادية واجتماعية كبيرة لو تمّ تنسيق السياسات بين البلدين.
في السياق ذاته، يُشكّل العامل الاقتصادي والاجتماعي عنصرًا أساسيًا في محدوديّة السياحة البينية، إذ تؤثر القدرة الشرائية المحدودة للمواطن العربي على اختياره للسفر داخل المنطقة، خصوصًا في ظلّ غياب عروض موجّهة بأسعار مناسبة. أضف إلى ذلك ضعف ثقافة السفر والسياحة بين سكان المنطقة العربية، ما يقلّل الطلب على الوجهات العربية الأخرى ويُضعف هذا القطاع بشكل كبير. كما أنّ التشابه الكبير في المنتوج السياحي بين الدول يحدّ من جاذبية التنقّل، إذ تظلّ معظم الوجهات تعتمد على الشواطئ أو السياحة الصحراوية أو التراث التاريخي، من دون تقديم عروضٍ مميزةٍ تلبّي الاحتياجات المتنوّعة للسائح العربي. ويضاف إلى ذلك غياب البنية التحتية اللوجستية المُتكاملة، بما في ذلك الطيران الداخلي ووسائل النقل البرّي والبحري، ما يؤدّي إلى ارتفاع تكلفة النقل وتقليل الربط المباشر بين المدن السياحية، وبالتالي تراجع التنافسية مقارنةً بالوجهات الدولية.
نحو رؤية عربية موحدة للسياحة البينية
على الرَّغم من تبنّي الدول العربية مجموعةً من الاتفاقيات والمبادرات لتعزيز التعاون السياحي الإقليمي، مثل اتفاقية السياحة العربية التي أقرّتها جامعة الدول العربية، فإنّ التطبيق العملي لهذه الاتفاقيات يظلّ ضعيفًا وغير متجانسٍ بين الدول، ممّا يمنع خلق فضاءٍ سياحيّ عربيّ متكامل. كما أنّ غياب التنسيق بين السياسات، والبرامج الترويجية المشتركة، ومبادرات التدريب وتبادل الخبرات، يحدّ من استفادة الدول من إمكاناتها الكامنة ويُقيّد الحركة البينية للسياح.
لصياغة رؤية عربية موحّدة للسياحة البينية تشمل إزالة العقبات الإدارية والحدودية وتطوير البنية التحتية للنقل
يمكن القول إنّ الفرص التنموية التي توفّرها السياحة البينية العربية أُهدرت بشكل كبير، ما انعكس على ضعف الإيرادات السياحية الداخلية، وفقدان فرص العمل، وتراجع دور القطاع كرافعةٍ للتنمية الإقليمية. المغرب والجزائر يمثّلان نموذجًا واضحًا للفرص الضائعة، إذ إنّ الحدود المغلقة وغياب التعاون المشترك حالا دون تحويل الإمكانات الطبيعية والثقافية إلى منتوج سياحي متكامل يحقّق قيمةً اقتصاديةً واجتماعيةً ملموسة.
إنّ تحقيق تحوّل حقيقي في هذا المجال يستدعي صياغة رؤية عربية موحّدة للسياحة البينية تشمل إزالة العقبات الإدارية والحدودية، وتطوير البنية التحتية للنقل، وتقديم عروض سياحية موجّهة للسائح العربي، وتنويع المنتج السياحي بما يتوافق مع احتياجات السوق المحلية والإقليمية. هذا التكامل يمكن أن يحوّل السياحة البينية العربية من قطاع ضعيف إلى رافعة استراتيجية للتنمية، تعزّز فرص العمل، وتقوّي الروابط الثقافية والاجتماعية بين الشعوب العربية، وتجعل المنطقة العربية أكثر جاذبيةً داخليًا وخارجيّا.
(خاص "عروبة 22")