اقتصاد ومال

كيف يمكن للعرب بناء صناعة وطنية للسفن؟

يـُعدّ العالم العربي واحدًا من أوائل مناطق العالم التي عرفت صناعة السفن، وعلى الأرجح كان أول منطقة شهدت إنتاج أساطيل السفن بشكلٍ تجاريّ، ولكن اليوم تُنتج الدول العربية نسبةً ضئيلةً من الإنتاج العالمي للسفن الذي يتركّز بشكل كبيرٍ في آسيا.

كيف يمكن للعرب بناء صناعة وطنية للسفن؟

لقرونٍ طويلةٍ قبل الميلاد، جابت أساطيل فينيقيا والجزيرة العربية المُصنّعة محلّيًا البحار والمحيطات وقادت ترسانات المنطقة العالم في مجال التكنولوجيا البحرية، وتجدّدت هذه الريادة بشكلٍ قويّ في العصر الإسلامي حين سيطر العرب على الملاحة في المحيط الهندي وتسيّدوا البحر المتوسط. وكان صعود القوى البحرية الأوروبية الأولى ممثلةً بالدويْلات الإيطالية والبرتغال وإسبانيا قائمًا إلى حدٍّ كبيرٍ على الاقتباس من الفنون البحرية العربية في المغرب العربي والأندلس وصقلّية والجزيرة العربية. 

ولكن اليوم، لا تكاد الدول العربية تتواجد على خريطة صناعة السفن العالمية.

لماذا يـُعدّ العالم العربي مؤهّلًا لدور ريادي في صناعة السفن؟

هناك مقوّمات عديدة تؤهّل العالم العربي ليكون لاعبًا رئيسيًا في صناعة السفن، أبرزها الموقع الاستراتيجي المُشرف على معظم خطوط الملاحة الرئيسية مثل المضايق وقناة السويس والتي تؤهّله بشكلٍ خاصٍّ للقيام بدورٍ كبيرٍ في صناعة وتأهيل وإصلاح وتموين السفن، التي بدورها تعدّ نواةً لصناعة السفن، إضافةً إلى وفرة الطاقة ورخصها الضرورية لصناعة الصلب الذي يمثّل ما يصل إلى نحو 20% من تكلفة تصنيع السفن.

الدول العربية تقود صادرات النفط والغاز العالمية والبديهي أنها أحقّ باستضافة صناعة ناقلات النفط والغاز المُسال

وصناعة السفن صناعة كثيفة العمالة التي تشكّل الأجور والمواد حوالي 70% من تكلفة السفينة، وتتوافر في الكثير من دول المنطقة الأيدي العاملة الرخيصة. كما أنّ المنطقة قريبة من دولٍ تتواجد فيها عمالة صناعة السفن، رخيصة وماهرة نسبيًا، مثل شبه القارة الهندية وبعض دول شرق أوروبا وتركيا، وليست بعيدةً عن جنوب شرق وشرق آسيا الموطن الأهمّ لصناعة السفن العالمية.

وتقود الدول العربية صادرات النفط والغاز العالمية الأمر الذي يجعلها عميلًا مهمًّا لصناعة ناقلات النفط والغاز المُسال التي تتركّز بشكل كبير في شرق آسيا، والبديهي أنّ الدول العربية أحقّ باستضافتها.

الوضع الحالي لصناعة السفن العربية

تتركّز صناعة السفن العربية المحدودة كمًّا وكيفًا في مصر والسعودية، وبصورةٍ أقلّ في المغرب وكذلك الإمارات التي تطوّرت كل منهما في صناعة الزوارق الحربية تحديدا.

في مصر، يوجد صناعة تاريخيّة قوية وحيّة لبناء سفن الصيد على ساحل البحر المتوسط خاصةً في مدينة عزبة البرج بمحافظة دمياط (عاصمة الصيد في البلاد)، حيث أثبتت كفاءتها أمام السفن المستورَدة وتوسّعت لتشمل صناعة اليخوت. ولكنّها تعتمد على استثماراتٍ عائليةٍ وخبراتٍ متوارثةٍ من دون دورٍ يُذكر للبحث العلمي والتدريب والتمويل المؤسّسي، وتحتاج إلى أن تصبح جزءًا من خطط الحكومة الجديدة لصناعة السفن.

ومؤخّرًا، كشف الفريق كامل الوزير، نائب رئيس الوزراء المصري وزير النقل والصناعة، عن خطةٍ لتصنيع السفن التجارية، عبر التعاون مع شركة "دايسون" الكورية الجنوبية وشركات عالمية أخرى، ويتمّ حاليًا تطوير ميناء بورتوفيق وترسانة السويس بشراكةٍ مع "هيئة قناة السويس"، والقطاع الخاص لبناء السفن بمختلف أنواعها. كما يجري العمل على تأسيس مصنعٍ لألواح الصلب لخدمة صناعة السفن بدل استيرادها.

صناعة السفن تحتاج إلى استثمارات وأسواق ضخمة وإمكانات متنوّعة يصعب على أي دولة عربية تلبيتها وحدها

أمّا السعودية، فقد كشفت عن خططٍ لجذب أكبر اللاعبين العالميين في مجال بناء السفن إلى المنطقة الاقتصادية في رأس الخير شمال الجبيل في "مجمّع الملك سلمان العالمي للصناعات والخدمات البحرية"، الذي ستبلغ مساحته 12 مليون متر مربع عند اكتماله. وبذلك، سيكون أكبر حوض بحري مُتكامل الخدمات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع مخططٍ للتوسّع، حيث يعمل بشكلٍ رئيسيّ في تصنيع وصيانة وتجديد السفن ومنصّات الحفر، بما في ذلك الناقلات العملاقة. ومن المتوقّع أن يخلق 80 ألف فرصة عمل، وستوفّر المنطقة امتيازات ضريبية وجمركية.

والمغرب لديه إمكانات واعدة في صناعة السفن لوفرة الأيدي العاملة الرخيصة نسبيًا، والتي أثبتت كفاءتها في صناعتَيْ الطائرات والسيارات. وكذلك الجزائر، بفضل وفرة موارد الطاقة وصناعة الصلب القوية واحتياطاتها المعدنية الكبيرة، إضافةً إلى موقع البلدَيْن الاستراتيجي وقربهما من أوروبا والأميركتين وأفريقيا.

كيف يمكن تأسيس صناعة سفن عربية واعدة؟

يُظهر العرض السابق أنّ الدول العربية مجتمعةً تمتلك مقوّماتٍ ممتازةً لصناعة السفن، كما لدى بعضها خطط طموحة في هذا الشأن. ولكن إذا تحرّكت فرادى فإنّ أغلب هذه المقوّمات ستذهب سدًى لأن صناعة السفن تحتاج إلى استثمارات وأسواق ضخمة وإمكانات متنوّعة يصعب على أي دولة عربية تلبيتها وحدها. ولكن يتطلّب الأمر استراتيجيةً عربيةً تقودها وتضعها الحكومات مع دورٍ محوري للقطاع الخاص.

يجب أن تلعب "الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري" دورًا محوريًا في التعليم والتدريب

إذًا، يمكن أن تقود الشركات الخليجية الاستثمار في هذه الصناعة عبر توزيع مرافق الإنتاج عربيًا حسب ميزات كلّ دولة النسبية فتُصنع أجزاء من السفن في منشآت جديدة أو الاستفادة من القائمة؛ كما يمكن الاستفادة من الطلب في المنطقة وموقعها الاستراتيجي ودورها الصاعد في صناعة النقل البحري عبر موانئ المنطقة المزدهرة مثل دبي وصلالة وطنجة والعين السخنة ودمياط عبر استخدامها لتوفير حوافز للسفن المصنّعة عربيًا مثل تخفيض موقت للرسوم. كما يمكن أن تعطي دول الخليج الأولوية للسفن المصنّعة عربيًا في أساطيلها من ناقلات النفط والغاز، وقد بدأت إدارة ترامب تنفيذ إجراءاتٍ مشابهةٍ لإحياء صناعة السفن الأميركية شبه الميتة.

ويتطلّب ذلك الاستفادة من موارد وموقع المنطقة وموانئها المزدهرة لإنشاء شركات شحن وملاحة عربية (ويمكن أن تلعب الإمارات دورًا رائدًا في هذا المجال) التي ستكون بدورها العميل الأول لصناعة السفن العربية المقترحة بحيث تؤسّس في المنطقة سلسلة توريد كاملة تبدأ بصناعة الصلب مرورًا بأحواض بناء وإصلاح السفن، ثم صناعة المحرّكات التي قد تبدأ بتجميع منتجات شركات عالمية وصولًا إلى نهاية السلسلة المتمثلة في شركات الملاحة والموانئ في المنطقة.

لا يصحّ أن تكون المنطقة التي علّمت العالم صناعة السفن شبه خالية منها

ويمكن للمنطقة الاستفادة من خبرة دول الخليج في استقدام العمالة الأجنبية المدرّبة لحين تأهيل العمالة العربية، كلّ ذلك عبر استراتيجيةٍ جماعيةٍ تُراعي بالأساس الجدوى الاقتصادية.

ويجب المبادرة بالاستثمار في التعليم والتدريب والبحث العلمي في هذا المجال، على أن تلعب "الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري" التي تعدّ من أنجح مؤسّسات الجامعة العربية، دورًا محوريًا في التعليم والتدريب وفي مجمل الاستراتيجية العربية لصناعة السفن.

فلا يصحّ أن تكون المنطقة التي علّمت العالم صناعة السفن شبه خاليةٍ منها، مع ضرورة الانتباه إلى أنّ هذه الصناعة لها أبعاد استراتيجية وعسكرية شديدة الأهمية، في وقتٍ تزداد عدوانية إسرائيل التي لم يَعُدْ يردعها وجود الأساطيل الأميركية عن الاعتداء على أقرب حلفاء واشنطن في المنطقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن