بصمات

عوائق النّقد الذّاتي

بين نقـد الذّات ومراجعةِ يقـينـيّـاتها، التي تحتاج إلى الافـتحاص عنها، وتحـقيـرِ الذّات والزّرايـة بـها فـارقٌ لا يُـرْدَم شَـقُّـه: هـو الفـرقُ بين أفعـال السّواء والأفعال المَرَضيّـة. تحقـير الذّات جزءٌ من تعذيبها، وهو إلى أفعال المازوشيّـة أقربُ وليس من غـايةٍ يُسْـعَى إليها من ممارستِه سوى التّـلـذُّذ المَرَضيّ بتعذيب الذّات؛ وهـذه حالٌ أطنبَ عـلم النّـفـس المَرَضيّ في بيان خطورتها على التّوازن النّـفسيّ والسّـلوكيّ لدى المصابين بها. نقـد الذّات شيءٌ آخر تمامًا: فعـلٌ من أفعال الجرأة الإيجابـيّـة والشّجاعة الأدبـيّـة، وتعـبيرٌ عن إرادة التّحرُّر من النّرجسيّـة المَرَضيّـة وعن إرادة التّصحيح والتّصويب وإعادة البناء. والفارق بـيِّـنٌ، هـنا، بين ما تـقود إليه نـزعة تحقير الذّات والقـدْحِ فيها من تـثـبـيطٍ وهـدْمٍ وما يقـود إليه النّـقـد الذّاتـيّ من حَـفْـزٍ على البـناء.

عوائق النّقد الذّاتي

وراء فـكرة النّـقـد الذّاتيّ، إذن، حوافـز ثـقافـيّـة تُهيِّئ لفعلِ النّـقـد شرطَه الذي ليس يمتَـكن أمـرُه من دونه؛ وهو (الشّرط) الوعيُ بوجودِ عطبٍ مّا أو خلَـلٍ يعـتوِر الذّات (المجتمع، الثّـقافة، المؤسّسة، الفـكرة...) يحتاج إلى تشخيصٍ وعلاج. ولكنّ الوعي بالقصور ليس كافـيًا، وحده، كي يُـفضيَ بصاحبه إلى ممارسة فعـل النّـقـد الذاتيّ (على الرَّغم من الحاجة الحيويّة إلى مثـل هذا الوعي)، إنْ لم يستصحب معه إرادةً فعـلـيّة تـتغـيّـا أهـدافًا عُليا من النّـقـد الذّاتي، وما أغـنانا عن القول إنّ نـشوء هذا النّوع من الإرادة يقـترن بوجود قـدْرٍ كـافٍ من الشّجاعة الأدبـيّة ومن التّجرُّد من نوازع التّبجيل الذّاتيّ؛ إذْ ما أشقّ على الإنسان - فردًا كان أو جماعةً أو مجتمعًا - أن يضع نفسه موضعَ احتسابٍ وفحْصٍ نـقديّ، وما أحوجهُ في ذلك إلى شجاعةٍ معـنويّة تسُـدّ أَوَدَه.

ولكن، بمثـل ما إنّ فعْـل النّـقد الذّاتيّ فعْـلٌ معرفيٌّ محمولٌ على حواملَ ثـقافـيّة (= الوعي بالحاجة إليه بغيّة التّصويب وإعادة البناء) تـفـتح الباب أمام إمكانه، فـإنّ العوائق الحائلة دونه عديدة ومن مصادر مختـلفة، غير أنّ أَظْهـر ما يعنينا منها هي تلك التي تكون في حكم العوائق الثّـقـافيّـة الكابحة لأيّ مسعًى نحو ذلك النّـقـد.

يبدأ النقد الذّاتي من نزع الهالة التي تُضفيها الذّات على نفسها قصد تهيئتها لرؤية نفسها في مرآة الواقع والعقل

لكـي نـُكـوِّن فكـرةً مطابِـقـةً عـن آثـار العـوائـق الثّـقافـيّـة تلك في وأْد بـذرة أيِّ نـقـدٍ، لا نُـدْحة لنا عن بعض التّـعريـف بما يُـفـتَـرض أنّ النّـقـد الذّاتيّ يتـنـاولـه وينـصرف إليه من مهمّـات. بيان ذلك أنّ نـقدًا للذّات لا يكون كـذلك فعلًا (أي نقـدًا) إلاّ متى رفـع عنها أرديـةَ حمايـةٍ زائـفـةً تَـخْـلعُها على نفسها، مُـطَـمْـئِـنَـةً بها نـفسَها على أنّها مأمونةُ الجانب من أيّ خطرٍ وموضعُ توقـيـر. وقـد تكون الأرديةُ تلك ممّا أسبَـغــتْـهُ هـي على نـفسها يقـينًا بنـفسها وإيـمانـًا بصواب ما هي عليه من اعتـقادٍ أو سلوك، وقـد تكون أرديةً واعيـةً أدوارَها الخداعيّـة. في الأحـوال جميـعِـها، لا يكـون للنّـقـد الذّاتيّ مـن مَـهْـرَبٍ له مـن إماطـة النّـقاب عـمّا تحـجُبُـه تلك الأردية من أحـوالٍ أو أوهـامٍ تحْـرص الذّاتُ على حمايـتـها؛ لأنّـها أساسُ ثـقـتـها بنفسها. يبدأ النّـقـد الذّاتيّ، بهـذا المعنـى، مـن نـزع تلك الهالـة الرّمـزيّـة التي تُضفيها الذّاتُ على نفسها قصـد تهيئـتها لرؤيـة نفسها في مرآة الواقـع والعـقـل؛ وهـذه، قطـعًا، بـدايـةٌ نـقـديّـة لأنّـها تزيـح من طريقها كلّ أوهـام التّـنزيه والتّبجيل الذّاتيّ التي ترزح فيها الذّات وتُحيط بها نـفسَها. وكـم هـو غنيّ عن البيان القولُ إنّ نوعًا من النّـقـد للذّات هذا مناطُـه (نزع التّـقـديس والتّـنـزيه...) لا يمكـنه إلاّ أن يَـلْقى مقاومةً من الذّات المستهدَفـة منه؛ مقاومة متـلـفّـعـة بكلّ الموارد الثّـقافـيّـة الدّفاعـيّـة.

اعتقاد الذّات الوهمي بحيازتها الحقيقة وتحلّيها بالمعصوميّة يمنعها من تصوُّر نفسها موضوعًا لنقد ذاتي

نـملك الآن أن نـفـهـم كـيف تُـبدي الذّاتُ مـقاومـاتٍ ثـقـافـيّـةً ضـدّ أيّ مـنـزع إلى عـرض نـفسـِها على هـذه الآلـيّـة المعـرفـيّـة التي تُـسـمَّـى النّـقـد. النّـقـد الوحيـد الذي قـد تـقـبلـه وتخـوض فيـه هـو نـقـد المـوضوع، لأنّـه مسـتـقـلّ عنها، أمّـا نـقـد الذّات فـليـس يـعـني عـنـدها سـوى تـشـويهـهـا والإتـيـانَ على هـيـكـلـهـا بمعـول الهـدم. لهـذا هـي - إلّا في مـا نَـدَر - مـزوَّدة ذاتـيًّـا بمـوارد مـمانعـتـهـا نـفـسَـها ضـدّ كـلّ نـقـد، وأَظْــهـرُ تلك المـوارد فيها وأَبـعـدُهـا أثـرًا تلك المَـزْعـمـة التي تسـكُـنـها: مـزعـمـة حيـازة الحـقيـقة التي تـرفـع عـن أيّ محـاكـمـةٍ مـعـرفـيّـةٍ لها مشـروعـيّـتها.

ليس على مَـن يملك الحـقيـقَـة أن يُسـاءَل أو أن يـراجَـع في رأيٍ رآه؛ إذ هـو مـنـزّهٌ عـن الزّلـل، وكـلُّ مسـعًـى إلى تخطـئـتِـه يصـطـدم بحقـيقـة عصـمـتـه وتعاليه عـن إتيـان الخطـإ. هـذا منطـقُ كـلِّ ذاتٍ في النّـظـر إلى نـفسـها؛ وهـذا الاعـتـقـاد الوهـميّ لـديـها بحيـازتـها الحـقـيـقـة وتحـلّيـها بالمعصـوميّـة هـو مـا يمـنـعـها مـن تصـوُّر نـفـسها موضوعًا لـنـقـدٍ ذاتـيّ وهـو، بالتّـالي، ما يـعـبّـر عـن حـالة المقاومـة الثـقافـيّـة الثَّـاويّـة فيـها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن