كانت مصر قد دخلت منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم في دائرة التوسّع في الاقتراض من الخارج من أجل تنفيذ مشاريع قومية ضخمة رأت الحكومة أنها ضرورية من أجل تحقيق نهضة جديدة، وإعداد البنية الأساسية التي ستسمح لاحقًا بجذب الاستثمارات وتحقيق النموّ الاقتصادي، ما أدّى إلى اقتراب ديون مصر الخارجية من حد الـ160 مليار دولار، مقارنةً بأربعين مليارًا عندما تولّى الرئيس منصبه في يونيو/حزيران 2014.
رفض معارضون مصريون، من اليسار والتيار القومي، تلك السياسة القائمة على التوسّع في الاقتراض، وأشاروا إلى أنّ تلك المشاريع "القومية" التي يتباهى بها النظام، مثل العاصمة الإدارية الجديدة وقطارات حديثة ومدن سياحية وموانئ وطرق وجسور، لا تمثّل أولوية للشعب المصري الذي يعاني نحو ثلثه من الفقر ولا يستفيد منها، وأنها لا تمثّل مصدرًا يمكن أن يدرّ دخلًا بشكل عاجل يؤدي إلى تحقيق تغيير إيجابي ملموس في مستوى معيشة المواطن.
استمرّت الحكومة بالاقتراض لسداد فوائد وأقساط الديون المستحقّة حتى نهاية العام والتي تُقدّر بنحو 15 مليار دولار
من أجل الحصول على قروض من الخارج، كان لا بدّ أن تقدّم الحكومة عوامل تغري المستثمرين الأجانب لإيداع أموالهم في البنوك المصرية لكي يكون هناك احتياطي كافٍ يضمن سداد تلك القروض، مثل تخفيض العملة المحلية ورفع نسبة الفائدة التي تقدّمها البنوك على الأوعية الادّخارية المختلفة، كما اعتمدت الحكومة للوصول بالاحتياطي إلى نحو أربعين مليار دولار حتى بداية عام 2022 على الودائع السخية التي قدّمتها دول الخليج منذ عشر سنوات.
لكن بعد حرب روسيا / أوكرانيا، خرج من مصر ما يزيد عن عشرين مليار دولار من الأموال التي توصف بـ"الساخنة"، أي التي يمكن أن تخرج في أي وقت نتيجة لتعرّض الدولة المعنية لمشاكل سياسية أو اقتصادية، والأرجح في حال وجود فرصة أفضل للاستثمار وتحقيق الأرباح في دولة أخرى. وبإضافة ما ترتّب على حرب روسيا وأوكرانيا من زيادات في أسعار العديد من المواد الأساسية، على رأسها القمح وكذلك النفط، ازداد مأزق الحكومة المصرية عمقًا، حيث أنّ المطلوب لم يصبح فقط سداد أقساط وفوائد الديون المتنامية، ولكن توفير الاحتياجات الأساسية للشعب المصري الذي بلغ تعداده نحو 110 ملايين نسمة.
لم يكن أمام الحكومة المصرية، التي ربطت مصير اقتصادها تمامًا بالمؤسسات النقدية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين، سوى أن تستمرّ في سياسة الاقتراض، ولكن هذه المرّة ليس لتمويل المشاريع القومية الضخمة التي تعهّدت لصندوق النقد الدولي بالإبطاء في تنفيذها في ضوء الأزمة الاقتصادية الخانقة، ولكن لسداد فوائد وأقساط الديون المستحقّة حتى نهاية هذا العام والتي تُقدّر بنحو 15 مليار دولار. كما تعهّدت بإطلاق برنامج طموح من أجل بيع الأصول المملوكة للدولة، وكذلك شركات تابعة للقوات المسلحة في إطار استراتيجية تقوم على زيادة نصيب استثمارات القطاع الخاص إلى نحو 65 في المائة من الاقتصاد المصري.
المستثمرون الأجانب الذين يدركون عمق الأزمة التي يواجهها القائمون على الاقتصاد المصري، بما في ذلك الأشقاء العرب، يتمنّعون ويتدلّلون أملًا في الحصول على أفضل الأسعار الممكنة ويدعمون بقوة مطلب صندوق النقد بالمزيد من "التعويم" للعملة المحلية أي خفض قيمتها، وهو ما يعني فورًا زيادة مضطردة في الأسعار ونسب التضخم في دولة تستورد ما يزيد عن ثلثي احتياجاتها من الخارج، ومع الوضع في الاعتبار أنّ العملة المصرية فقدت نحو 65 في المائة من قيمتها مقابل الدولار على مدى عام واحد فقط إثر سلسلة من إجراءات التعويم المتتالية. كما أنّ أجواء عدم الاستقرار في المنطقة العربية والقارة الأفريقية عمومًا، لا تجعل من مصر الملاذ الأوّل للمستثمرين في الوقت الحالي.
الاقتصاد وإدارته في مصر ودول عربية ترتبط به شبكات مصالح معقّدة ومترسّخة في الداخل والخارج
لكن الحكومة بدورها لا تزال تُقدم على بيع أصولها على مضض، وبطريقة المثل الشعبي المصري "رجل ورا (للخلف) ورجل لقدام (للأمام)"، وتشترط على المستثمرين العرب والأجانب ألا يحصلوا سوى على نسب محدودة من الشركات المطروحة بحيث لا تصبح لهم النسبة الغالبة فيستطيعون الانفراد باتخاد القرارات. أو تطرح على المستثمرين زيادة رأس المال واعتبارهم شركاء بنسب محدودة وليس الشراء الحقيقي الكامل للشركة.
لا تحتاج الحكومة المصرية لنصائح المعارضين، من اليسار والقوميين، للإبطاء في بيع الأصول التي تمتلكها الدولة بحجة أنها تدرّ دخلًا، رغم أنّ أصول الدولة عمليًا لا تشمل الشركات المعروضة للبيع حاليًا فقط، إنما هناك أراضٍ شاسعة وبنية تحتية لم يُسمح للقطاع الخاص أساسًا بالاستثمار فيها. ولكن الدولة المركزية القوية في مصر تدرك أنّ هذا الدور الهائل في إدارة الاقتصاد والتحكّم في توزيع الثروة هو أمر أساسي ومطلوب لضمان استقرار نظام الحكم والفوائد الجمة التي تتمتّع بها الطبقة الصغيرة المستفيدة من ذلك النظام.
قد تبيع الحكومة المصرية محطات للبنزين والمياه المعدنية تمتلكها القوات المسلحة وقامت ببنائها لزيادة مصادر دخلها، أو بنوكًا وأرصفة موانئ، ولكنها ستبقى مصمّمة أن يبقى لها نصيب الأسد وأن تلعب الدور المركزي في إدارة الاقتصاد، وبغض النظر عن أيّ اتفاقيات مع صندوق النقد تتعهّد بتعظيم دور القطاع الخاص. فالاقتصاد وإدارته في مصر ودول عربية ترتبط به شبكات مصالح معقّدة ومترسّخة في الداخل والخارج، والقضية لا تتعلّق بحب الوطن، أو الأهمّ مصالح وحقوق المواطنين وتحسين ظروف معيشتهم الصعبة.
(خاص "عروبة 22")