أشفق على أفراد الأجيال العربية الشابة التي عليها أن تحمل المسؤوليات الثقيلة التالية بنفس الجهد والجدية لكل منها، وأن تقوم بتلك المهمات في الوقت نفسه، وبتوازٍ في تلك المسيرة.
فأولاً، هناك مهمة متابعة الموجة الحالية التحليلية الناقدة الرافضة والمتعاظمة لحضارة العصر العولمية الحالية المهيمنة. وهي بالطبع في الأساس حضارة الغرب، وبالأخص الوجه الأمريكي الأوروبي منها.
وثانياً، وفي الوقت نفسه، المتابعة والمشاركة في تحليل ومراجعة ونقد وتجديد ما انتقل إلينا من حضارتنا العربية والإسلامية التاريخية.
وثالثاًَ، متابعة ما يُقترح من حلول و علاجات لأمراض وإشكالات الحضارة العولمية المهيمنة من جهة، وما يُقترح من حلول وعلاجات لأمراض وإشكالات الحضارة العربية والإسلامية، من أجل الخروج بحلول ذاتية لا تتعارض مع بعض خصوصيات أوضاعنا، ولا تفصلنا عن المشاركة في حضارة العصر المستقبلية.
ويخطئ الجيل العربي الجديد إن ظن أن باستطاعته تجنب الإندماج في تلك المعارك والمحاولات الثلاث الكبرى. ولو حاول فإنه سيقضي على إمكانية تحقق الكثير من أحلامه، وآماله المستقبلية. وليس عليه ألا يتجنب خوض تلك المعارك فقط، وإنما عليه ألا يندمج فيها، ويتفاعل معها، بنفس الطرق الخاطئة التي مارستها الأجيال التي سبقت: طرق التابعية والتقليد بدلاً من الاستقلالية والإبداع، وطرق الشعور بالدونية الفكرية والانبهار الطفولي أمام منجزات الآخرين، ومسارات التعب المبكر، والعجز في منتصفات تلك الطرق. وهي مثالب سببت الكثير من الإخفاق لأفكار طرحت ولإيديولوجيات اقترحت، ولاستراتيجيات تبنتها قوى مدنية عربية، وبعض من الأنظمة السياسية العربية، ولكنها جميعاً ذهبت أدراج الريح مع مرور الأزمنة، وتغيّر الأحوال.
في هذه المرحلة تحتاج الأجيال العربية أن تتجنب تكرار ما أصاب كل ذلك الماضي من أخطاء وأمراض، وسوء فهم. وفي هذه اللحظة تتركز الأنظار على المراجعة الشاملة والنقد العميق الحاد لكل جوانب الحضارة العولمية المهيمنة.
ففي الاقتصاد هناك رفض متنام لمنطلقات حرية الأسواق والاعتماد على ديناميتها الذاتية في تصحيح أي مسار خاطئ، أو أزمة طارئة، وهناك ثورة عارمة على ما آل إليه ذلك من ازدياد مذهل في غنى قلة من الأغنياء، وفي فقر كثرة من الفقراء.
وفي السياسة، هناك شكوك ومراجعات، ونقد وهجوم حول تاريخ وحاضر وتلفيقات واختطاف الممارسة الديمقراطية السياسية الليبرالية من قبل قوى الدولة العميقة الخادمة لقوى المال والشركات الكبرى والأمن العسكري والاستخباراتي. ومعه هناك تلميحات بالإعجاب بعدالة النظام السياسي الإقتصادي الصيني الجامع بين المبادئ و الممارسات الليبرالية والماركسية.
وفي الثقافة، هناك خوف وهلع من غياب المعيارية الأخلاقية والقيمية الدينية، ومن جنون ممارسة السرعة المتعاظمة في السلوك اليومي، وفي حركة المكان، وفي العلاقات العائلية والاجتماعية.
وبالطبع هناك حركة ما بعد الحداثة الرافضة لمبادئ أساسية في حداثة ما جاءت به ثورات الأنوار الغربية منذ قرون عدة، وعلى الأخص مواضيع من مثل حتمية التقدم، أو حتمية العقلانية في الحياة الإنسانية.
هذه الحركة النقدية أضافت تحليلاً ونقداً حاداً لسلوكية السرعة المجنونة، والنهم غير المحدود في كل مناحي الحياة اليومية للمجتمعات الحديثة: في العمل، وفي جمع الثروة، وفي التعابير الفنية، وفي العلاقات الأسرية، وفي التواصل الالكتروني الاجتماعي، وفي التوسع التجاري المجنون، وفي الاستغلال غير المسؤول لموارد الطبيعة، وفي التغيير العبثي المتعاظم لكل صرعات الموضة، في الملبس والغناء وكل وسائل الرفاهية.
في رأيي أن المدرسة الجديدة ليست موجهه لأجيال أوروبا وأمريكا فقط، وإنما هي تهم شباب العالم، بمن فيهم شابات وشباب هذه الأمة. وفهمهما واستيعابها هما جزء ضروري من التفاعل النقدي العربي مع الحضارة العولمية الغربية الذي أشرنا إليه في المقدمة.
("الخليج") الإماراتية