لسنا أحوج إلى شيءٍ في أرض العرب، قدر حاجتنا إلى العمل بالمعنى المُراد في الحديث، لأنّ المعنى فيه لم يكن أنّ نبي الإسلام قد عاد، ولا أنّ أصحابَه قد عادوا معه إلى ديارهم، ولا أنّهم سألوه وأجابَهم. ولكنّ المعنى كان أنّهم عادوا من جهادٍ أصغر على جبهة القتال، إلى جهادٍ أكبر في ميدان الحياة. وهناك معنى آخر في الحديث هو أنّ الجهاد ليس على الجبهة وحدها، ولكنّه أيضًا في ساحة الحياة على اتّساعها، بل إنّه فيها أكبر منه على الجبهة في ميدان الحرب.
شيء من هذا تجده في نفسك، وأنت تتابع اتفاق وقف الحرب على الفلسطينيين في قطاع غزّة، بعد حربٍ دامت عامَيْن ويومَيْن على الفلسطينيين في القطاع وفي الضفّة الغربية معا.
العودة من الحرب ليست نهاية الطريق وما بعدها هو الأصعب والأشدّ عُسرًا ومشقّة
فالجهاد الأكبر سوف يكون على الفلسطينيين أن يخوضوا ميدانه، وسوف يكون عليهم أن يبدأوا فيه على الفور، بعد أن عادوا من الجهاد الأصغر. وربّما سوف يصاب الكثيرون بيننا بالدهشة من أن يكون الجهاد طوال تلك الحرب كان جهادًا أصغر، على الرَّغم من أنّه استمر سنتَيْن ويومَيْن، وأن يكون الجهاد التالي لتوقّف الحرب جهادًا أكبر على الرَّغم من أنّه بطبيعته، أو بالقياس إلى الجهاد هناك في أرض المعركة، جهاد لا حرب فيه ولا قتال.
والذين ستُصيبهم الدهشة من ذلك عندهم حقّ، إذا ما أخذوا الأمور بشكلها الظاهر أمامنا، ولكنّهم سوف ينتبهون بعدها إلى أنّ الدهشة من جانبهم لا مجال لها، إذا ما أعادوا قراءة الحديث النبوي بشيءٍ من التأمّل، وإذا انتبهوا إلى أنّ نبي الإسلام كان يعني ما يقول، وكان يعرف ماذا يقول، وكان يلفتنا إلى أنّ العودة من الحرب ليست نهاية الطريق، وأنّ ما بعدها هو الأصعب والأشدّ عُسرًا ومشقّةً، ولذلك أطلق عليه جهاد النفس، ورآه كبيرًا مقارنةً بالجهاد الأصغر بالسلاح.
صحيح أنّنا كعرب نظلّ معنيين جدًّا بمعنى هذا الحديث، ولكنّ الفلسطينيين معنيّون به أكثر، لأنّهم لو انشغلوا بجهاد النفس في مرحلة ما قبل الحرب على غزّة، ما كانت انطلقت من الأصل، وما كانت قد حصدت كلّ هذه الأعداد من الضحايا والمصابين والمفقودين والمشرّدين.
لا أحبّ في العادة أن أتكلّم بصيغة "لَوْ" لأنّها تخاطب ماضيًا انقضى وانتهى، ولأنّها تبكي على ما لن يعود، ولكنّ جانبًا آخر يظلّ كامنًا فيها هو جانب الدرس المُستفاد، إذا جاز أن يكون لمثل هذا الدرس مكان بين الفلسطينيين بالخصوص، وبيننا نحن العرب في العموم.
جهاد النفس في مرحلة ما بعد سكوت المدافع هو ألّا تظل غزّة حيث هي في غرب فلسطين، والضفّة الغربية حيث هي في شرق فلسطين، ولا صلة بينهما، ولا كلام، ولا اتصال، ولا تواصل، بل قطيعة وانقطاع!.
إذا بقي الأمر على ما كان عليه من الانقطاع أو القطيعة، فكأنّنا لا عُدنا من حرب، ولا رجعنا من جبهة القتال، وكأنّه لا جهاد أكبر لا بدّ أن ننخرط فيه، وكأنّه لا جهاد أصغر قد خضناه ثم مررنا منه إلى الجهاد الآخر الأكبر منه والأوسع.
استمرار وجود صوتَيْن في الضفة وغزة سوف يبدّد التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية
إنّ العالم صار الآن في غالبيته أكثر تقبّلًا لفكرة حلّ الدولتَيْن، بل وصار متحمّسًا لها ومستعدًّا للعمل من أجلها. ولا شيء يدلّ على ذلك إلّا أنّ الفكرة لمّا جرى عرضها على الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل الاجتماعات السنوية للجمعية في سبتمبر/أيلول، صوّتت 145 دولة مع الفكرة. وكان التصويت بهذا العدد من الدول إشارةً إلى أنّ ثُلثَيْ دول العالم مع الفكرة ومع أن تقوم دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة إلى جانب الدولة العبرية.
هذا التصويت في أشدّ الحاجة إلى العمل عليه، ثم إلى التجاوب معه فلسطينيًا، ولا معنى للتجاوب هنا إلّا أن يكون الفلسطينيون صوتًا واحدًا، وألّا يكونوا صوتَيْن مُتفرّقَيْن أحدهما في غزّة والآخر في الضفّة الغربية. فاستمرار وجود الصوتَيْن، والفريقَيْن، واللّسانَيْن، والحكومتَيْن، لن يخدم فكرة حلّ الدولتَيْن في شيء، وإنّما سوف يُلحق بها الضرر، وسوف يبدّد هذا التعاطف الدولي الواسع مع القضية في فلسطين ومع أبناء القضية في الإجمال.
عودوا أيّها الفلسطينيون إلى الجهاد الأكبر، لأنّه هو الذي سيوظّف عائد الجهاد الأصغر في خدمة القضية التي هي شأن أصيل لكلّ فلسطيني.
(خاص "عروبة 22")

