لكن بمناسبة ما يبدو، حتّى وقت كتابة هذه السطور، "نهاية ما" لتلك المعركة المُسرفة في وحشيّتها وهمجيّتها التي ظلّت تطحن أجساد الناس والحجر والشجر معًا على مدى أكثر من عامَيْن، فإنّ هناك فيضًا من الأسئلة يغمر رؤوسنا يُمكننا توزيعه بين مجموعتَيْن اثنتَيْن:
المجموعة الأولى، تنضوي تحتها عشرات التساؤلات تتعلّق كلّها بما سيجري في قطاع غزّة بعد انتهاء المرحلة الأولى ممّا يسمّى "خطة ترامب"، وهي مرحلة لم تَعْنِ شيئًا لمَن صاغوا تلك الخطة البائسة سوى الإفراج عن الأسرى الصهاينة لدى المقاومة. أمّا باقي المراحل ببنودها العشرين فهي من العمومية والغموض الشديدَيْن ما سيجعلها، في أفضل الأحوال، مجرّد مناسبةٍ لمفاوضاتٍ عبثيةٍ قد تستمر شهورًا أو سنوات تُتابَع خلالها الوقائع (غالبًا دموية) وتتراكم وتتشوّه خرائط على الورق، لكن على الأرض لن يحدث أي شيء إيجابي له علاقة بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وطموحاته المشروعة في العيش بكرامةٍ وحريةٍ، فوق أرض وطنه المسروق.
إذن المعركة على القطاع الفلسطيني الصغير هي في رأي الكثيرين "انتهت"، غير أنّ الأغلبية الكاسحة من هؤلاء لا يعرفون حتى الآن على أي نحوٍ تبدّت نهايتها، وأيّ صورة للمستقبل سترسمها هذه "الخطة"، بعيدًا طبعًا عن تلك الخرافات والثرثرات الهرائية التي سمعناها يوم الإفراج عن أسرى العدو وبعض أسرانا في سجونه التي تضجّ جدرانها بنحو 12 ألف أسير.
النصر في معارك الشعوب الساعية لنيل حريتها لا يُقاس بعدد الجثث وإلّا لكانت أميركا هي المنتصرة في حرب فيتنام
هنا بالضبط تأتي أسئلة المجموعة الثانية التي أهمّها وأخطرها ذاك السؤال الكبير: هل المقاومة المُسلّحة هُزمت فعلًا وسقطت في معركة غزّة كفكرةٍ وأداةٍ كفاحيةٍ للشعب الفلسطيني ضمن أدوات ووسائل أخرى عديدة ومتنوّعة ومهمّة للكفاح، لا بدّ أن تتناغم كلّها لتواكِب السلاح المُقاوم؟!.
بمعنى أكثر صراحةً ومباشرةً، هل كانت معركة "7 أكتوبر" تحديدًا بالنظر إلى النتائج المرئيّة، كارثةً ووبالًا على شعب فلسطين وأفضت إلى نتائج كارثيةٍ أصابت قضيته العادلة في مقتل؟... يعني باختصار، هل انتصر العدو؟.
جحافل من الطيّبين الذين يثقل على ضمائرهم بشدّةٍ وعنفٍ، حجم التقتيل والتخريب والتدمير الهائل وغير المسبوق الذي تعرّض له أهلنا في غزّة، فيقولون الآن بأسًى مُفرطٍ ويأسٍ موجعٍ إنّ معركة "طوفان الأقصى" انتهت بهزيمةٍ منكرةٍ لفلسطين وشعبها... غير أنّ هؤلاء الطيبين يستحقّون أن نُذكّرَهم بحقيقتَيْن اثنتَيْن لكنهما ضروريتَيْن جدًّا لأي مقاربة تتعلّق بالحرب، أي حرب:
أوّل هذه الحقائق أنّ النصر خصوصًا في معارك الشعوب الساعية لنيل حريتها وحقوقها، أبدًا لا يُقاس بحجم وعدد الجثث، وإلّا لكانت أميركا هي المنتصرة في حرب فيتنام وليس العكس، فبمعيار الجثث تفوّقت أميركا تفوقًا ساحقًا على الشعب الفيتنامي الذي سقط منه في الحرب نحو 3 ملايين إنسان، فيما لم تتعدَّ خسائر الجيش الأميركي 60 ألف قتيل فقط... ومع ذلك الفارق الهائل في عدد الجثث انتهت الحرب بهزيمةٍ مُذلّةٍ لأميركا وانتصارٍ تاريخيّ مدوٍّ للشعب الفيتنامي... هناك أمثلة أخرى كثيرة وشهيرة على أنّ مسألة النصر والهزيمة في الحروب لا تُقاس بعدد جثث كلّ طرف.
أمّا ثاني الحقائق، فهي أنّ الحروب عمومًا وحروب التحرير خصوصًا، كفاح مستمر ومعارك متصلة ومنفصلة، وليست أبدًا معركةً واحدةً كأنّها مباراة من جولةٍ وحيدةٍ مَن يخسرها خسر المباراة كلّها.
أصبحت قضية فلسطين وحقّ شعبها معيارًا يُقاس به مدى إنسانيّة البشر
في ضوء الحقيقتَيْن السابقتَيْن، وعلى فرضٍ فعلًا أنّنا خسرنا معركة غزّة الأخيرة، فمَن قال إنّنا خسرنا حرب تحرير فلسطين من نظام الفصل العنصري النازي المتوحّش الذي سرق وما زال يسرق أرضها؟.
لو تحرّرنا من روح اليأس وتخفّفنا قليلًا من تلال الحزن، فسنكتشف أنّه على الرَّغم من الثمن الهائل والثقيل جدًّا الذي دفعه أهلنا الفلسطينيون في غزّة، فإنّ شلّال الدم الطاهر الذي سال وفاض هناك لم يذهب سدًى، وإنّما حقق الآتي:
1 - قضية فلسطين التي كانت على شفا السقوط في هوّة ظلام النسيان وأن تُلغى وتُمحى تمامًا من جدول أعمال العالم قبل معركة طوفان الأقصى، لم تَعُدْ فقط لتحتلّ مكانتها وتفرض نفسها على الدنيا كلها، بل عادت لتصبح القضية الأهم وتحتلّ رأس قائمة قضايا العالم العادلة، وتصير ليس القضية العربية الأولى بحقّ (كدنا أن ننسى وجودها أصلًا)، وإنّما قضية الإنسانية كلّها وأهم عناوين تلك الثورة الإنسانية العارمة التي تفجّرت على نحوٍ غير مسبوقٍ في الأغلبية الساحقة من مدن وعواصم العالم وأرقى جامعات الدنيا، بعدما أصبحت قضية فلسطين وحقّ شعبها معيارًا يُقاس به مدى إنسانيّة البشر ومدى يقظة ورهافة ضمائرهم، أينما كانوا على سطح الكوكب من أستراليا في أقصى جنوبه إلى السويد والنرويج وكندا في أقصى شماله.
2 - لقد كان العدو يُجهّز ويتحضّر للخلاص من الشعب الفلسطيني تهجيرًا أو إبادةً، وأعدّ لخطته الإجرامية كلّ العدّة والأدوات اللّازمة (كلّها أميركية)، بل كان قد شرع فعلًا في تنفيذها من الضفّة الغربية، حيث داهمه الخطر الوجودي الذي ظلّ يتحسّب له منذ يوم تأسيسه... إنّه الخطر الديموغرافي المتمثّل في التفوّق العددي للعرب الفلسطينيين على الصهاينة في أرض فلسطين. ولكن، على الرَّغم من مسلسل المجازر الذي لم يتوقّف أبدًا وأبشع صور التنكيل الجماعي والتهجير القسري، فإنّ عدد مَن تبقّى من الشعب الفلسطيني على أرضه زاد الآن بنحو ربع مليون شخص على عدد الصهاينة.
إنجاز ثمين واجبنا استثماره والبناء عليه حتى يتحلّل الأساس العنصري للكيان الصهيوني وتنتصر فلسطين
إنّ معركة غزّة الأخيرة أتت لتُثبت للعدو أن لا التهجير سيُفلح معه ولا الإبادة ستنفعه، وأنّ اندفاع كيانه نحو السَكَنِ في أسوأ صور العنصرية وأشدّها إجرامًا وفجاجةً هي قدره المحتوم.
3 - ذلك الظهير الإنساني الرائع هائل القوّة والحجم الذي حقّقه أهل غزّة بصمودهم الأسطوري وأجسادهم العارية (والجائعة أيضًا) وعشرات الآلاف من شهدائهم، نموذج سيبقى دائمًا وأبدًا عصيًّا على التآكل والنسيان، وسيظل محفورًا في ضمير الإنسانية مهما طال الزمن شاهدًا ومُذكّرًا على الدوام ببشاعة العدو ووحشيّته اللّامحدودة فضلًا عن سوء ورداءة مُجتمعه المُلَفّق سابق التصنيع والتخليق إمبرياليّا... إنّه إنجاز ثمين جدًّا لقضية فلسطين واجبنا استثماره والبناء عليه حتى ينهزم ويتحلّل الأساس العنصري القبيح للكيان الصهيوني وتنتصر فلسطين، تمامًا كما انتصر شعب جنوب أفريقيا بعدما تفكّك واندحر نظام الفصل العنصري هناك بقوّة الضمير والظهير الإنساني.
(خاص "عروبة 22")

