شهدت مناطق شمال شرق سوريا مؤخرًا هبّة عشائرية عربية ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية، بدأت بمحافظة ديز الزور، وسرعان ما امتدّت لريف حلب الشرقي، حيث حاولت مجموعات عشائرية عربية التقدّم نحو مدينة منبج ذات الأغلبية العربية الخاضعة للأكراد.
منطقة الإدارة الذاتية ما زالت ذات أغلبية عربية رغم التهجير وعمليات التطهير العرقي التي نفّذتها القوات الكردية
وقعت هذه الهبّة ردًا على اعتقال أحمد الخبيل المعروف بـ"أبو خولة"، وهو قائد مجلس دير الزور العسكري التابع لـ"قسد" بعدما اعتقلته الأخيرة بتهمة الفساد والتهريب والتعامل مع إيران، ولكن قادة عشائريون عدّة ونشطاء بالمنطقة يؤكدون أنّ هبّة العشائر العربية ليست بسبب "أبو خولة" حتى لو كان اعتقاله هو الشرارة التي حرّكت رجاله، ولكن بسبب ممارسات قوات حماية الشعب الكردية بحقّ الأغلبية العربية في المنطقة، وإضافة للهبّة المسلّحة شهدت المنطقة وقفات احتجاجية من قبل نشطاء في دير الزور، وكان أحد أبرز أسباب الاستياء العربي تطبيق نظام بطاقة الوافد على سكّان الشطر غير الخاضع للحكم الكردي من دير الزور.
ويسيطر الأكراد على نحو 50 ألف كليومتر مربّع تمثّل 27% من مساحة سوريا، ويقدّر أنّ هناك مليوني كردي سوري أغلبهم يعيش في مناطق الإدارة الذاتية بشمال وشمال شرق البلاد (يمثلون 10% من سكان سوريا)، ويعتقد أنّ منطقة الإدارة الذاتية هذه ما زالت ذات أغلبية عربية رغم التهجير جراء الحروب وبعض عمليات التطهير العرقي التي نفّذتها القوات الكردية، خاصة أنّ هناك محافظة واحدة بسوريا فقط هي الحسكة يوجد بها ثقل كردي وازن (نحو ثلث السكان قبل الأزمة)، بينما يسيطر الأكراد على منطقة واسعة تشمل الحسكة ومعظم محافظة الرقة وجزء كبير من دير الزور ومناطق بمحافظة حلب.
ومن المعروف أنّ أغلبية أكراد سوريا ينحدرون من تركيا حيث طُردوا منها بعد فشل ثورة كردية ضدّ كمال أتاتورك عام 1926، ثم وطّنهم الاستعمار الفرنسي بسوريا في إطار سياسته للاستعانة بالأقلّيات، ولقد ظلّت نسبة كبيرة منهم لا تحمل الجنسية السورية حتى قيام الثورة حينما تمّ منحهم الجنسية من قبل دمشق لاستمالتهم بعيدًا عن المعارضة.
وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي، الذي أسّس المنطقة الكردية وهو فصيل منبثق من حزب العمّال الكردستاني التركي، تشكّل بالأساس من الأعضاء السوريين في الحزب، الذي كان حليفًا لنظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لعقود، قبل أن يسلّم الأخير مؤسّس حزب العمال عبد الله أوجلان لتركيا في نهاية التسعينيات.
ورغم تشكيل إدارات محلية عربية ومجالس عسكرية وكوميونات في المناطق ذات الغالبية العربية، فإنه وفقًا لتقارير مراكز بحثية غربية، هذه الكوميونات وهي وسيلة للسيطرة وجمع المعلومات، وتعزيز الولاء مقابل المساعدات، والمتحكّم في كل شيء هو القادة والمستشارون الأكراد، الذين أسّسوا مجموعات عسكرية تضمّ مقاتلين عربًا عشائريين، واستبعدوا القوى المسيّسة والمثقفين العرب، لأنهم رأوا أنّ المجموعات العشائرية أسهل انقيادًا، ويتم تلقين المقاتلين العرب أيدولوجيا حزب العمّال الكردستاني التركي، حتى أنه في حفل تخرّج أقيم في عام 2018 لـ140 مقاتلًا عربيًا انضمّوا إلى قوات "قسد"، ظهرت شعارات مؤيّدة لحزب العمّال الكردستاني مثل "لا حياة بدون قائدنا!" تم ترديدها كتعهّد بالولاء، حسبما ذكرت دراسة لمعهد بيكر الأمريكي.
تجويع سوريا
ولكن الأخطر أنّ الكيان الذي يقوده الأكراد، يتسبّب في إفقار بقيّة سوريا، ولقد وقعت مؤخرًا احتجاجات في مناطق الساحل السوري الموالية للحكومة، وكذلك لمنطقة السويداء الدرزية التي كانت محايدة طوال الحرب.
فلقد تعمّد الأمريكيون مساعدة الأكراد في السيطرة على حقول النفط بشرق البلاد عام 2017 بعد إعلان القضاء على "داعش".
وكان لافتًا توسيع الأكراد سيطرتهم بدعم أمريكي، إلى محافظة دير الزور تحديدًا، رغم غياب الوجود الكردي بها، حيث يُقدّر نسبة العرب السنّة فيها بنحو 90 %.
تحويل عائدات النفط لتمويل الإدارة الكردية رغم أنّ النفط كلّه تقريبًا بمناطق عربية
وكان الهدف هو منع سيطرة دمشق على هذه الموارد، والحقيقة أنّ الادعاء بأنّ الهدف هو قطع الطريق أمام طهران لكي لا تصل بين نفوذها في العراق، وسوريا، ليس منطقيًا لأنّ الإيرانيين والميلشيات الموالية لهم، يحتفظون بوجود عسكري على الحدود العراقية السورية يسمح لهم بنقل الإمدادات بين البلدين.
أدى هذا الوضع إلى حرمان الشعب السوري من عائدات النفط، وتحويلها لتمويل الإدارة الكردية، رغم أنّ النفط كلّه تقريبًا بمناطق عربية، وتسيطر "قسد" حاليًا على أكثر من 50 في المائة من حقول الغاز الطبيعي السورية، و90 في المائة من النفط، وتنتج هذه المناطق معظم النفط السوري، بمعدّل يبلغ نحو 80.3 ألف برميل يوميًا، يتمّ تسليم 14.2 ألف برميل منها يوميًا للمصافي التابعة للحكومة السورية، وهناك جزء يتسرّب لتركيا رغم خصومتها مع أكراد سوريا، كما استتثنى الأمريكيون المنطقة الكردية من عدد من عقوباتهم (ليس من بينها النفط).
ووفقاً لتقديرات بعض الخبراء، تتلقّى الإدارة الكردية حوالى 16 دولارًا أمريكيًا لكلّ برميل، فيما يذهب 15 دولارًا أخرى للحكومة السورية، أما المبلغ المتبقي، والذي قد يصل إلى 50 دولارًا للبرميل، فينتهي به المطاف في أيدي المتربّحين من الحرب، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الشرق الأوسط السعودية.
وإلى جانب النفط، فإنّ الإدارة الكردية تسيطر على أهمّ المناطق الزراعية بسوريا، خاصة المناطق المروية المحيطة بنهر الفرات وروافده (الفرات هو الحدّ الفاصل بين مناطق سيطرة دمشق، والأكراد).
وقبل الحرب الأهلية، كانت المنطقة تنتج 43% من الحبوب السورية و80% من القطن، حيث كانت تُعتبر سلّة الغذاء السورية.
وأعادت سلطة الأمر الواقع الكردية توزيع الأراضي عبر الكوميونات، فيما تصفه بثورة اشتراكية، وطبقًا لـ"وزارة الاقتصاد" بالمنطقة، فقد تمّ وضع ما يقرب من ثلاثة أرباع جميع الممتلكات تحت ملكية المجتمع، وتمّ تحويل ثلث الإنتاج إلى الإدارة المباشرة من قبل مجالس العمّال (غالبًا يسيطر عليه الأكراد)، وقد يعني هذا أنه تحت اسم الثورة الاشتراكية يتمّ نزع الأراضي من العرب لصالح الأكراد أو الاستيلاء على أراضي المهجّرين.
كما أنّ سدّ الطبقة على نهر الفرات، وهو أكبر سدّ سوري ينتج طاقة موجود بهذه المنطقة.
ولا شكّ أنّ هذا الوضع له دور في أزمة الغذاء الحالية بسوريا، البلد العربي الوحيد الذي كان مصدرًا للقمح قبل الأزمة.
تتمتّع منطقة الإدارة الكردية بأعلى متوسّط رواتب ومعيشة في جميع أنحاء سوريا
والنتيجة هي أنّ 14.6 مليون شخص من أصل 21.7 مليون نسمة ما زالوا يعيشون في سوريا يحتاجون للمساعدة الإنسانية، ويعاني 54% من سكّان البلاد من انعدام الأمن الغذائي، حسب تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية نُشر في منتصف 2023.
في المقابل، تتمتّع منطقة الإدارة الكردية بأعلى متوسّط الرواتب ومستوى معيشة في جميع أنحاء سوريا، حيث تبلغ الرواتب ضعف نظيراتها بمناطق النظام، وبعد انهيار الليرة السورية، ضاعفت الإدارة الذاتية في 2022، الرواتب لاحتواء التضخّم.
في ظلّ الظلم الواقع على منطقة الجزيرة فإنّها تُمثّل أرضًا خصبة للتنظيمات المتطرّفة
ولا تخفي واشنطن نيّتها في إنجاح "روجوفا" مقابل إفشال المناطق الخاضعة لسيطرة دمشق وبصورة أقلّ المناطق الخاضعة للمعارضة الموالية لتركيا. وهي لا تأبه إلى أنّ ذلك لن يشجّع فقط على تفكّك سوريا، ولكن يخلق أيضًا مظلومية بالمناطق العربية الخاضعة للأكراد، فرغم أنّ وضعهم الاقتصادي أفضل من بقية المناطق، ولكن يظلّ هناك تمييز اقتصادي واجتماعي بيّن يلحق بالعرب مقارنةً بالأكراد، كما أنّ المنافع تذهب للمجموعات التابعة لـ"قسد"، والتي كثير منها عشائرية، وبعضها مجرّد مسلّحين مستعدين للعمل مع من يدفع أكثر مثلما قالت "قسد" نفسها عن "أبو خولة"، والأهمّ أنّ التنمية مرتبطة بالانقياد للأخ الكردي الكبير و"العم سام".
يجعل هذا الوضع شمال شرق سوريا قنبلة موقوتة، لا سيما وأنّ منطقة الجزيرة لها طبيعة اجتماعية خاصة، فسكّانها ينحدرون من عشائر عربية قوية، عُرف عنها تاريخيًا الاعتزاز بالنفس، ولها تقاليد حربية، فهي المنطقة التي نشأت بها الدولة الآشورية المشهورة ببأسها، وفي ظلّ غياب أحزاب سياسية قومية ووطنية معبّرة عن هويتها، والظلم الواقع عليها، فإنّها تُمثّل أرضًا خصبة للتنظيمات المتطرّفة.
(خاص "عروبة 22")