في المشهد الراهن، لم يعد بنيامين نتنياهو عبئا على الداخل الاسرائيلي فقط، بل صار ثقلا معطلا لاي تحرك سياسي جاد في الاقليم، والعالم كله اليوم يقرأ المشهد بدقة، فموسكو تنأى بنفسها عن المغامرات السياسية في الشرق الاوسط وتركز على الاقتصاد لتثبيت توازنات معقدة، وبكين تمسك بحياد محسوب، تراكم حضورها عبر التجارة لا الصراع، فيما اوروبا تتجه نحو الاعتراف المتزايد بفلسطين وتغلق تدريجيا منافذ المناورة امام حكومة اليمين الاسرائيلي، هذه ليست اشارات رمزية، بل تعبير عن تراجع الرغبة الدولية في الاستثمار في قيادة اسرائيل الحالية او الرهان عليها في اي مسار تسوية جاد.
في قلب الاقليم تغير المزاج أيضا، فالرياض رفعت السقف واغلقت باب الاجتهاد، لا تطبيع ولا انفتاح بلا مسار سياسي واضح نحو دولة فلسطينية مستقلة، وهذا موقف لم يعد قابلا للتراجع، ما يجعل نتنياهو عائقا هيكليا امام اي معادلة جديدة، الرجل لا يريد دفع اي كلفة داخلية، وهو اسير ائتلاف لا يملك سوى الاستثمار في التصعيد، ولا يملك ادوات انتاج حل حقيقي.
الأردن يذهب أبعد من التلميح، مواقفه العلنية – وبتصريحات واضحة من رأس الدولة نفسه- تشير الى ان لا استقرار إقليميا بالمطلق مع حكومة "تشرعن" الضم وتغلق الافق السياسي، وعمان تتحرك بلغة واثقة لحماية مصالحها وحدودها ووصايتها على القدس، القاهرة تقرأ الملف من زاويته الامنية الدقيقة، تدعم التهدئة في غزة وتتعامل مع التعنت الاسرائيلي كمعطى يومي، أما الدوحة فتواصل لعب دور الوسيط بحذر لكنها تصطدم بحسابات يمينية جامدة، لا تقبل مرونة ولا مبادرات.
على الجانب الدولي، لا تملك واشنطن رفاهية تجاهل واقع حكومة ترفض اي تسوية، لكنها في الوقت ذاته لا تملك ادوات فرض الحل من طرف واحد، لهذا تتقدم فكرة العزل الهادئ كخيار منطقي، ليس قطيعة ولا تصعيدا غوغائيا، بل اعادة رسم للخطوط التي يتعامل بها الاقليم مع اسرائيل، بحيث يبنى التعاون الامني والانساني عند الضرورة، وتفتح مسارات اقتصادية انتقائية بعيدة عن السياسة الرسمية، مع تكثيف الضغط الدبلوماسي والقانوني لاضعاف شرعية نهج التطرف لا وجود الدولة نفسها.
هذا العزل لا يعني ادارة ظهر للاقليم، بل فتح مسارات بديلة، فالدول العربية والاقليمية اليوم تتحرك في ملفات متشابكة للطاقة والنقل والتجارة والبنى التحتية العابرة للحدود، وهي ملفات تحتاج الى استقرار طويل الامد لا يمكن ضمانه مع حكومة متطرفة تعيش على التوتر الدائم بل وتتغذى عليه، وكلما تبلورت هذه المشاريع، من الممرات الاقتصادية الى خطوط الطاقة الجديدة، زادت كلفة ابقاء حكومة اسرائيل الحالية داخل اللعبة.
هذه المقاربة لا تندرج في إطار الشعارات، بل تعكس إدراكا متزايدا بأن حكومة نتنياهو تمثل مأزقا لا مخرجا، وان التعامل معها يراكم الانسداد لا الانفراج، لذلك فإن بناء موقف اقليمي متماسك يرسل إشارة موحدة الى واشنطن والعواصم الاخرى يصبح اداة ضغط لا يمكن تجاهلها. الرسالة في النهاية بسيطة وواضحة، لا استقرار اقليميا يمكن ان يبنى مع حكومة لا تؤمن بالسلام ولا تملك رؤية سياسية، التعامل مع الملف الاسرائيلي اليوم لا يعني التعامل مع نتنياهو، بل تجاوزه سياسيا حتى يسقط من تلقاء نفسه، وحين تصبح كلفته اكبر من قدرته على المناورة.
(الغد الأردنية)