إعدام

ما أن توقفت الحرب الإسرائيلية على غزة حتى بدأت صور وفيديوهات التصفيات الميدانية في القطاع تجوب العالم ومعها سيول من التعليقات، تشجيع وتأييد من هنا، ورفض واحتجاج من هناك. يجب الاعتراف بأن الصور والفيديوهات كانت قاسية جدا وصادمة. ومع ذلك أستغرب أن يتذمر العالم أو يستغرب وجود فوضى وفلتان تشوبه إعدامات ميدانية وتصفية حسابات دموية في منطقة شنَّ عليها الجيش الإسرائيلي حرب إبادة أيقظت أسوأ ما في البشر من وحشية وشرّ. هل كان العالم ينتظر مثلا أن يخرج مقاتلو حماس وسكان غزة إلى الشوارع بعد توقف آلة الإبادة الإسرائيلية حاملين باقات الورد ويافطات العرفان والشكر لإسرائيل على ما فعلت وللخونة على إنجازاتهم والعالم على أدائه دور المتفرج السلبي ببراعة وإتقان؟

الخيانة في المجتمعات البشرية ظاهرة طبيعية وُجدت منذ الأزل. ومثلها الانتقام من مرتكبيها وتصفية الحسابات العالقة معهم. لكل فعل رد فعل. تتفاقم الخيانة في الصراعات، لأن كل طرف يحتاج إلى معرفة الآخر عن قرب، وهذا لا يتحقق له إلا بوجود عملاء في الداخل يقبلون أداء هذه المهمة القذرة. وتتفاقم الخيانة أكثر في الصراعات بين طرفين غير متكافئين، مثل حالات الاستعمار الاستيطاني كما كان الحال في الجزائر والآن في فلسطين. المجتمعات التي تتعرض للاستعمار تكون عادة ضعيفة أو عاجزة عن حماية نفسها. والضعف يعني أن المجتمع في حالة هشاشة وعوز تجعل تجنيد العملاء مهمة سهلة. يستطيع الإنسان أن يؤلف كتبا ودراسات اجتماعية ونفسية وسياسية في الخيانة والعمالة للعدو، خصوصا في الحالات القريبة منا كالجزائرية والفلسطينية. لكن الظاهرة ليست حكرا على هاتين الحالتين. غير بعيد عنا، كان بين الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية فئة أقامت حكومة وقاتلت مع النازيين. الثورة الفرنسية أهدرت دماء من اعتبرتهم خونة أو موالين للمَلكية في السنوات التي أعقبت الإطاحة بالملك لويس السادس عشر. في فيتنام نجحت فرنسا الاستعمارية في تجنيد جيش مواز أطلقت عليه "الجيش الوطني الفيتنامي" لدعم قواتها.

الصراعات يحسمها الأقوياء، لكن بدعم من الخونة والعملاء. لولا هؤلاء وخياناتهم الداخلية لانتهت الكثير من الحروب والصراعات في اتجاهات ونتائج غير التي نعرفها اليوم. هذه سُنّة الكون، سابقا واليوم ومستقبلا. وهذا ما يتعمد المنتصرون تجاهله وهم يكتبون التاريخ، لأنهم يرفضون أن يُنسب نصرهم لغيرهم أو يقلل أحد من شأنه بادعاء وجود شركاء في هذا النصر. تلك التصفيات الميدانية التي شاهدها العالم في غزة في الأيام الأولى من توقف الحرب جزء من مسار إنساني طبيعي، لا يوجد أيّ داعٍ لأن يأتي أحد ويزعم أنه لم يتوقع حدوثها. الفرق أن كثيرين صوّروها وشاركوها مع العالم في لحظات، مثلما يجري تصوير أيّ شيء آخر في أيّ مكان فوق الكرة الأرضية الآن. أما الفعل في حد ذاته فقديم قِدم الإنسان وتكرر منذ الأزل وإنْ اختلفت الأساليب والأدوات.

وارد جدا أن بين الذين أُعدموا أبرياء ومظلومين، وهذا مؤسف ومؤلم. ويجوز أيضا أن بين الذين أُعدموا ونُكِّل بهم، حتى لو خانوا ذويهم فعلا، مَن لديهم أعذارهم وظروفهم الخاصة القاسية التي دفعتهم إلى العمل مع إسرائيل. لكن عندما تلتحق بالعدو، سواء باختيارك أو أُجبرت على ذلك، يكون عليك أن تتوقع نهاية مأساوية. الذي يحدث أن حركات المقاومة تتعامل مع ظاهرة الخونة بمنطق رفض الأعذار والظروف المخففة، حتى لو كانت صادقة، حتى لا يفتح ذلك الباب لاستثناءات تُطبّع فعل الخيانة وتنتهي بالمجتمع إلى تقبله.

في حالة غزة والمآسي التي تغرق فيها اليوم، الفوضى والأخطاء هي القاعدة، وآخر شيء يحق انتظاره هناك العدالة والإنصاف. لا يوجد عاقل ينتظر تحقيقات نزيهة ومحاكم وقضاة وأحكاما قضائية منصفة. هذه غزة وليست سويسرا أو نيوزيلندا. أما الذين نددوا بالإعدامات الميدانية، من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نزولا إلى أبسط إنسان على وجه الكرة الأرضية، فيملكون رفاهية الانتقاد من هواتفهم الذكية بعيدا عن وجع غزة. لو أن أحدهم فقدَ عائلته وكل ما يملك، أو وجد شقيقته اليافعة قد اعتقلها الاحتلال في مكان مجهول، وربما اغتصبها، بفعل وشاية واشٍ، كان الموقف من العملاء سيتغيّر ويصبح رد الفعل أيّ شيء غير الرفض والاحتجاج.

لا أؤيد تلك الإعدامات والحقد الذي تمت به. ولا أسعى لتبريرها. أتمنى لو أنها كانت تتويجا لمسار قانوني ولو في حده الأدنى. لكنني أتفهمها وأجد أنها أقل ما يمكن انتظاره في مجتمع أصابه كل ذلك الخراب المهول، وهو يدرك أن الخيانة كانت سببا من أسبابه. مثلما أتفهم أن الذين فجّروا رؤوس أولئك الجاثين على ركبهم برصاصات من المسافة صفر كانوا، بفعلهم ذاك، ينتقمون من آخرين بعيدين عن موقع تنفيذ الإعدام: مَن جنّدوا العملاء، ومَن شنّوا حرب الإبادة ومَن وقفوا متفرجين عليها في كل مكان من هذا العالم الرحب. كانت تلك الإعدامات تنفيسا عن بركان داخلي عظيم وعملية إفراغ غضب لا يتحمله إنسان. وكانت رسالة احتجاج للعالم الجبان الذي تواطأ مع الإبادة.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن