اقتصاد ومال

الشبكات المالية العربية المشتركة: البناء والفرص والمخاطر (1/2)

في عالمٍ تتسارع فيه التحوّلات المالية والتكنولوجية، لم تعد فكرة بناء شبكات مالية عربية مشتركة ترفًا، بل ضرورة اقتصادية وأمنية. فالعوْلمة المالية، وما تفرضه من تبعيّة للأنظمة الغربية في المقاصّة والتحويلات، دفعت دولًا كثيرة إلى البحث عن صيغٍ إقليميةٍ تُقلّص تعرّضها للصدمات. والعالم العربي، الذي تفوق أصوله المصرفية أربعة تريليونات دولار، أمام فرصة لإعادة رسم خريطته المالية عبر شبكاتٍ تُحقّق التكامل النقدي والاستقرار المالي. وتُعَدّ مبادرات التمويل الأخضر والتقنيات المالية الحديثة بدايةً لبنية عربية تمتدّ من المشرق إلى المغرب، على الرَّغم من تحدّيات البنية التشريعية والرقابية التي تستدعي توازنًا بين الطموح والواقعية لتجنّب إخفاقات الماضي.

الشبكات المالية العربية المشتركة: البناء والفرص والمخاطر (1/2)

تقوم فكرة الشبكات المالية العربية المشتركة على مبدأ أساسي مفاده بأنّ الترابط المالي الإقليمي يُعزّز القدرة التفاوضية للعرب في الاقتصاد العالمي، ويزيد من كفاءة التعاملات التجارية والاستثمارية. فبينما تتقدّم أوروبا في توحيد مدفوعاتها عبر نظام "سيبا" (SEPA أو Single Euro Payments Area – المنطقة الموحّدة للدفعات باليورو)، وتعمل الصين على تطوير منظومتها المستقلّة عن "سويفت" (SWIFT أوSociety for Worldwide Interbank Financial Telecommunication – جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف)، لا تزال المنطقة العربية تعتمد على شبكاتٍ أجنبيةٍ لتسوية معاملات دولها بعضها مع بعض، على الرَّغم من القرب الجغرافي والتكامل التجاري الكامن بينها. من هنا تنبعُ الحاجة إلى بناء منظومةٍ عربيةٍ متكاملةٍ تشمل أنظمة الدفع والمقاصّة والعملات الرقمية، تعمل تحت مظلّة تنظيمية مُوحّدة وتُدَارُ برؤيةٍ مشتركةٍ بين المصارف المركزية العربية.

منصّة "بُنَى" التابعة لصندوق النقد العربي تُشكّل نموذجًا يمكن تطويره ليصبح نظامًا شاملًا للتسويات المالية الإقليمية

الرّكيزة الأولى في هذا البناء هي أنظمة الدفع العربية المشتركة، التي يمكنها أن تقلّص تكاليف التحويلات بين الدول العربية بنسبة تتراوح ما بين 20 في المئة و40 في المئة، مقارنةً بالتحويلات التي تمرّ عبر المراكز المالية الغربية. ذلك أنّ عمليات الدفع العابرة للحدود داخل الإقليم تُعَد اليوم بطيئةً ومُكلفةً، على الرَّغم من وجود أدواتٍ أوليةٍ مثل منصّة "بُنَى" التابعة لصندوق النقد العربي، التي تشكّل نموذجًا يمكن تطويره ليصبح نظامًا شاملًا للتسويات المالية الإقليمية. وتُتيح هذه المنصّة تسوية المدفوعات بالعملات المحلية بدلًا من الاعتماد الكلّي على الدولار، وهو ما يُعتبَر خطوةً عمليةً في اتجاه تعزيز الاستقلال النقدي وتقليص مخاطر تقلّبات أسعار الصرف.

أمّا البنية الثانية فهي أنظمة المقاصّة الإقليمية، التي تمثّل الأساس لأي شبكة مالية عربية فاعلة. فالمقاصّة هي العملية التي تُمكّن المصارف المركزية من تسوية الحسابات بينها من دون الحاجة إلى المرور بمصارف مُراسِلة في نيويورك أو لندن. ومن شأن إنشاء مركز مقاصّة عربي أن يقلّص تكلفة التجارة البينية، ويزيد من سرعة التحويلات، ويرفع حجم التعاملات التجارية داخل المنطقة، التي لا تزال لا تتجاوز 10 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية العربية.

يمكن تطوير "دينار عربي رقمي" لتسهيل المدفوعات الإقليمية وتخفيض تكلفة التعاملات المالية

ومن الناحية النظرية، يُمكن للمقاصّة العربية أن تعتمد هيكلًا هجينًا يجمع بَيْن الأنظمة المركزية التقليدية وحلول البلوكتشين (blockchain، أو سلسلة الكتل، وهي تقنية لتخزين البيانات وتبادلها بشكلٍ آمنٍ وشفافٍ من دون وسيط)، ما يمنحها الشفافية والكفاءة في آنٍ واحد.

ويأتي الطموح الأكبر في هذا السياق مُتمثّلًا في إطلاق عملة رقمية عربية إقليمية، تكون أداة تسويةٍ رسميةٍ بين المصارف المركزية، ثم بين المؤسّسات المالية والشركات. فالعالم اليوم يشهد سباقًا محمومًا نحو إصدار العملات الرقمية للمصارف المركزية (central bank digital currencies أو CBDCs)، إذ أطلقت الصين عملتها الرقمية "اليوان الإلكتروني"، وتبعتها السويد ونيجيريا وغيرها. ويمكن للعرب أن يستفيدوا من هذه الخبرات لتطوير "دينار عربي رقمي" أو "درهم موحّد"، ليس بهدف إلغاء العملات الوطنية، بل لتسهيل المدفوعات الإقليمية وتخفيض تكلفة التعاملات المالية. كذلك، تستطيع هذه العملة أن تشكل قاعدةً لإصدار سندات خضراء أو أدوات تمويلية رقمية موجّهة نحو التنمية المستدامة.

بناء شبكة مالية عربية موحّدة يتطلب توافقًا على المعايير وبيئة قانونية تُتيح تبادل البيانات بأمان بين الدول

ولا يمكن إغفال الدور الموازي لشبكات التمويل الأخضر والمُستدام في الدول العربية، التي باتت منصّةً محوريةً لتبادل الخبرات حول تمويل المشاريع البيئية، ولتعزيز دور المصارف العربية في مواجهة تحدّيات تغيّر المناخ. تمثّل هذه الشبكات بُعدًا نوعيًا جديدًا في الفكر المالي العربي، إذ تجمع بين البعد البيئي والاقتصادي وتحوّل الالتزامات المناخية إلى فرص تمويلية واستثمارية.

وفي موازاة ذلك، تبرز مجموعة العمل الإقليمية للتقنيات المالية الحديثة، التابعة لصندوق النقد العربي، التي تعمل على بناء القدرات العربية في مجالات التكنولوجيا المالية، من البلوكتشين إلى الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الكبرى. هذه المجموعة تشكّل العمود المعرفي الذي يمكن أن يُساندَ أي شبكة مالية عربية في المستقبل، عبر بناء خبرات بشرية متخصّصة قادرة على تشغيل الأنظمة الرقمية المعقّدة وضمان أمنها واستقرارها.

التوازن بين الابتكار والضوابط الرقابية لا يمكن بلوغه إلا من خلال رؤية عربية مشتركة تربط المال بالسيادة والتنمية

لكنّ الصورة النظرية لا تكتمل من دون معالجة التحدّيات. فبناء شبكة مالية عربية موحّدة يتطلب توافقًا على معايير الامتثال ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إلى جانب تأسيس بيئة قانونية تُتيح تبادل البيانات بأمان بين الدول. بدورِها تمثّل المخاطر السيبرانية أحد أكبر التحدّيات في ظلّ تصاعد الهجمات الإلكترونية عالميًا، ما يستدعي تأسيس مركز إقليمي للأمن السيبراني المالي العربي يكون مسؤولًا عن مراقبة التهديدات وحماية البنى التحتية. إنّ نجاح هذا المشروع مرهون بقدرة الدول العربية على تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين الانفتاح على الابتكار والالتزام الصارم بالضوابط الرقابية، الإقليمية والدولية، وهو توازن لا يمكن بلوغه إلّا من خلال وضع رؤيةٍ عربيةٍ مشتركةٍ بعيدة الأجل تربط المال بالسيادة والتنمية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن