في ضوء ذلك، اتّبع ترامب نهجًا تفاوضيًا غير مألوف، اتّسم بالرغبة في تحقيق مصالح ومكاسب مباشِرة بغضّ النظر عن طبيعة الطرف الآخر وهويته. ويمثّل هذا النهج، نموذجًا للواقعية أو البراغماتية المُفرطة والتي تتجاوز الاعتبارات الإيديولوجية كافّة، وتُخالف أحد تقاليد الديبلوماسية الأميركية المزعومة، وهي أنّه لا تفاوض مع الإرهابيين.
ينطلق هذا النهج من نظرةٍ "نفعية"، تُركّز على ما يمكن تحقيقه على الأرض، أيًّا كان الطرف الذي يتمّ التفاوض معه، فالسياسة الخارجية من وجهة نظر ترامب هي سلسلة من الصفقات التي يَستخدم فيها أدوات التهديد بالقوة المسلحة، وتوظيف الديبلوماسية الإكراهية، حتى تتمّ بشروطه. وبهذا المعنى، فإنّ العلاقات الدولية هي بمثابة مفاوضات تجارية لا مكان فيها للقيم الأخلاقية المُجرّدة.
المُهم هو عقد الصفقات بغضّ النظر عمَّن هو الطرف الآخر ما دام هُناك ما يملكه هذا الطرف ويحتاج إليه ترامب
يتّسم سلوك ترامب التفاوضي بأنّه لا يمكن توقّعه حيث يُمكنه الانتقال وبسرعةٍ من الضدّ إلى الضدّ. وعلى سبيل المثال، هدّد كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية بتدمير بلاده إذا استمرّت في برامج تسليحها خلال ولايته الأولى، لكن بعد شهور قليلة فقط قام بمصافحته وأشاد به كزعيمٍ قوي.
لم يكُن ترامب أوّل من تبنّى هذا النهج. فمن قبله، قام مسؤولون في إدارة رونالد ريغان بخرق الحظر المفروض على توريد السلاح لإيران، فيما سُمّي بفضيحة "إيران كونترا" التي تكشّفت ملامحها عام 1986، وتفاوضت مع طهران لدعمها بأسلحة وذخائر إبّان حربها مع بغداد، مُقابل استخدام إيران نفوذها السياسي لدى وكلائها في لبنان للإفراج عن رهائن أميركيين لديهم. وفي عام 1993، تفاوضت أميركا وإسرائيل مع "منظمة التحرير الفلسطينية" في أوسلو، في عهد الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون، على الرَّغم من أنّ المُنظمة كانت مُدرجةً على قوائم الإرهاب.
وهناك سوابق أخرى خارج أميركا، مثل جلوس الحكومة الإسبانية على مائدة المفاوضات مع منظمة "إيتا" الباسكية الإرهابية عام 1988، ومحافظة الحكومة البريطانية على صلاتٍ سرّيةٍ مع قيادات منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي.
الشراكات والصداقات التي يُقيمها ترامب هي مؤقتة وفقًا لاستمرار المصالح التي تربطه بالأطراف الأخرى
الجديد في حالة ترامب، أنّ هذا النهج يُمثل السلوك العادي له في إدارة السياسة الخارجية، وليس مُجرّد حادث منفرد. وبناءً على ما تقدّم، يُمكن تفكيك نهج ترامب التفاوضي إلى أربعة عناصر:
أوّلها، البراغماتية المُفرطة: فقد تجاوز ترامب سلوك كلّ التصنيفات والأوصاف الإيديولوجية كالسُلطوية، والديكتاتورية، والإرهاب. ممّا مكّنه من التفاوض مع الجميع طالما أنه يفعل ذلك من موقع قوة.
ثانيها، الأولوية المُطلقة لمصالح الولايات المُتحدة: الأمر الذي انعكس في تمسّكه بشعارَيْ "أميركا أولًا" و"لنجعل أميركا عظيمةً مرة أُخرى". فدافِعه الأساسي هو تحقيق المصلحة الأميركية المُباشرة وفقًا لتعريفه وحسبما يراها.
ثالثها، أنّ إدارة العلاقات الخارجية هي امتداد لعلاقات عالم المال والتجارة الذي عاشه طول حياته وأتقنه، وعرف دروبه وأسراره. المُهم في هذا المجال هو عقد الصفقات وتبادل المنافع بغضّ النظر عمَّن هو الطرف الآخر ما دام هُناك ما يملكه هذا الطرف ويحتاج إليه ترامب.
رابعها، أنّ الشراكات والصداقات التي يُقيمها ترامب هي مؤقتة بالضرورة، وفقًا لاستمرار المصالح التي تربطه بالأطراف الأخرى.
نجاح سياسة التهديدات و"حافّة الهاوية" التي يتّبعها ترامب ينبغي أن تُرافقها ثقة الآخرين في وعوده
ينطوي هذا النهج على قدرٍ كبيرٍ من "اللامبالاة الأخلاقية"، والسعي لتحقيق المكاسب في الأجل القصير من دون الأخذ بالضرورة بعين الاعتبار تداعياتها وتأثيراتها في الأجل الطويل. يُعطي هذا السلوك ترامب ميزةً إذ يُخشى من تقلّباته واندفاعاته، لكن من ناحية أخرى يُضعف مصداقية الولايات المُتحدة والثقة في تعهداته. وذلك، لأنّ نجاح سياسة التهديدات و"حافّة الهاوية" التي يتّبعها ترامب ينبغي أن يُرافقها ثقة الآخرين في وعوده، وأنّ تنفيذ رغباته سوف يؤدّي إلى ضمان مصالحهم وتحقيق الأمن والاستقرار لهم أيضا.
ترامب مُستعدّ للجلوس مع أيّ طرف مهما كانت خلفيته أو مُعتقداته شرط أن يكون مستعدًّا للتجاوب مع مطالبه والوفاء بما يُريده منه، ويستخدم في علاقته مع كل الأطراف مزيجًا من أقصى درجات التهديد، مثل كلمات "فتح أبواب جهنّم" أو "تدميرها كاملة" في الإشارة إلى حركة "حماس" من ناحية، واستعداده لإرسال مبعوثيه للجلوس مع ممثّليها كما حدث في اجتماعٍ في لقاء ويتكوف وكوشنر مع خليل الحيّة في شرم الشيخ في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2025، من ناحية أُخرى.
على الرَّغم من كُلّ هذه الثغرات في نهج ترامب التفاوضي، فإنّه الطبق الوحيد الموجود على المائدة. ومن ثمّ، يقبله كُل الأطراف، ويسعى كُلٌ منهم لتأويل تصريحاته على النّحو الذي يخدم مصالحه.
(خاص "عروبة 22")

