على الرغم من انصياع اسرائيل إلى وقف إطلاق النار في غزة ولبنان إلا أن الخروقات والتعديات المستمرة تعتبر خير دليل على مطامع تل أبيب ومخططاتها على المديين القصير والطويل، ناهيك عما تجريه من تغيرات في الجغرافيا السورية وتحديدًا في الجنوب وعملها الدؤوب للحيلولة دون رفع مفاعيل قانون "قيصر" عن دمشق بظل انتفاء الأسباب التي أسهمت في إقراره. وتعمل اسرائيل على التوسع وفرض سيطرتها بالنار والدم على امتداد المنطقة وتغيير موازين القوى وقلبها لصالحها عبر إضعاف الدول المحيطة بها وإغراقها بالتعقيدات والنزاعات اليومية التي تستفيد منها لاضعاف الداخل في مواجهة الخارج، مستفيدة من الدعم الأميركي في الكثير من الملفات.
وقد يكاد الملف اللبناني واحد من أبرز تلك القضايا المفتوحة اليوم على مصراعيها وسط محاولات لمنع جرّ البلاد إلى أتون حرب جديدة والتوسط لدى الدول الضامنة لوقف إطلاق النار للحدّ من التصعيد الاسرائيلي المتواصل والضغط من أجل وقف هجماتها، خصوصًا أن لبنان ملتزم بالمسار المتفق عليه لناحية حصرية السلاح وانتشار الجيش اللبناني، ولو واجهته بعض التأخيرات أو العثرات. ولكن المعنيين يدركون أن اسرائيل اليوم في أوج قوتها وأنها لا تلتزم بـ"الخطوط الحمراء" الموضوعة بل تتعمد إيجاد الحجج والذرائع لشنّ المزيد من الضربات التي لم تسلم منها أي منطقة لبنانية. وفي هذا الإطار، تنتظر البلاد وصول الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس إلى بيروت قادمة من اسرائيل بعد مشاروات عقدتها هناك وركزت على سلاح "حزب الله" والخطط المستقبلية. وتستمر زيارة أورتاغوس لغاية يوم الأربعاء، حيث ستشارك في اجتماع لجنة مراقبة وقف إطلاق النار "الميكانيزم"، برئاسة رئيسها الجديد الجنرال جوزيف كليرفيد، الذي سبق وقام بجولة على الرؤساء الثلاثة وابدى تفهمًا للمسار المتخذ وأيد تكثيف اجتماعات اللجنة وتفعيل دورها بالتزامن مع الضغوط الكبيرة التي تمارس على البلاد من كل حدب وصوب.
وقبل وصولها قامت الموفدة الأميركية برفقة وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بجولة عند الحدود مع لبنان حيث زارا القيادة الشمالية والحدود اللبنانية، بمشاركة السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هكابي، والسفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة يحيئيل ليتر، وقائد القيادة الشمالية رافي ميلو، وممثلي القيادة المركزية الأميركية، وممثلي مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وذكر البيان الصادر عن وزارة الدفاع أن "قادة الجيش الإسرائيلي أطلعوا، في بداية الزيارة، وزير الأمن وأورتاغوس على أنشطة "حزب الله"، ومحاولاته لإعادة بناء بنيته التحتية العسكرية في لبنان". وبحسب البيان عينه فإن كاتس وأورتاغوس "أجريا لاحقًا جولة على الحدود..حيث اطّلعا على الأراضي اللبنانية، واستمعا من القادة الميدانيين إلى جهود الجيش الإسرائيلي الدفاعية والهجومية في المنطقة، بما في ذلك القضاء على عنصرين من "حزب الله" خلال الزيارة". وهذه التحركات تتزامن مع تكثيف وتيرة الاغتيالات والملاحقات لعناصر من "حزب الله"، والتي أسفرت منذ الخميس الماضي عن مقتل 11 شخصًا، بينهم 8 على الأقل، من عناصر الحزب، مما رفع حصيلة الإسرائيلية إلى أكثر من 365 شخصًا خلال 11 شهرًا، أي منذ دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وذلك بحسب ما نقلته صحيفة "معاريف" العبرية عن مصادر أمنية إسرائيلية.
هذا وكانت وزارة الصحة اللبنانية أعلنت، أمس الأحد، عن مقتل 3 أشخاص وإصابة اثنين أخريين بجروح في الهجمات الاسرائيلية التي استهدفت على التوالي بلدة الناقورة بقضاء صور والنبي شيت بقضاء بعلبك، شرق البلاد، كما بلدة الحفير الفوقا، ناهيك عن غارة بثلاثة صواريخ على سهل بلدة بوداي، اقتصرت أضرارها على الماديات. والوتيرة المتصاعدة من الاستهدافات تأتي في ظل تمسك الحزب بسلاحه ورفضه التنازل عنه تحت أي شروط مما يزيد من الانقسام العاموي الداخلي في وقت تستغل اسرائيل ما يجري وتوظفه لصالحها. وقد صعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من تهديداته، إذ قال إن "إسرائيل لا تحتاج إلى إذن من أحد لضرب أهداف في غزة أو لبنان بالرغم من موافقتها على الهدنة الأخيرة"، مشيراً، في كلمة خلال اجتماع لحكومته، إلى أن "إسرائيل دولة مستقلة، ولسنا مستعدين للتسامح مع هجمات ضدنا. نردّ على الهجمات وفق ما نراه مناسبًا". وتزيد هذه الأوضاع من الأعباء الملقاة على عاتق الحكومة اللبنانية التي تستعد أيضَا لاستقبال أمين عام الجامعة العربية أحمد أبو الغيط، ومدير المخابرات المصرية حسن رشاد، في ظل معلومات تتحدث عن زيارة جديدة سيجريها المبعوث الأميركي توم برّاك إلى بيروت وجميعها تصب في الخانة عينها امتصاص التوترات وخفض التصعيد وإيجاد حل لـ"معضلة" سلاح "حزب الله".
إلى ذلك، اكد الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم أن "الحزب لا يملك قرارًا بالمبادرة إلى قتال"، لكنه أردف قائلاً "إذ فرض علينا سنقاتل العدو، حتى لو لم يبقَ فينا رجل وامرأة". وإذ توجه لإسرائيل بالقول "إن لم تطبقوا الاتفاق لن تحصلوا على نتيجة ونحن سنستمر بالاستعداد لنقاوم أي عدوان ممكن أن يحصل". اعتبر أن "استمرار الضغوط الأميركية والإسرائيلية بهذا الشكل يهدف إلى أن تأخذ أميركا في السياسة ما لم تستطع إسرائيل أخذه بالحرب". كلام الأخير الذي جاء في حديث تلفزيوني بمناسبة الذكرى السنوية الأولى على توليه مهام الأمانة العامة لـ"حزب الله" لم يحمل أي جديد أو تغير في السردية والعقلية التي يتبناها الحزب على الرغم من حديث تل أبيب المستمر عن استعادة الحزب بناء بنيته التحتية العسكرية، وتكديس الأسلحة الإيرانية، والتحضير لمواجهة محتملة في عمق الأراضي اللبنانية كتبرير لأي ضربات أو هجمات حالية أو في الأيام القليلة المقبلة.
ومما يجري في لبنان إلى غزة التي لا تزال تتشاطر مع الضفة الغربية سلم الأولويات، حيث وفق التسريبات الاسرائيلية تضغط الإدارة الأميركية من أجل الشروع في المرحلة الثانية من الاتفاق حتى قبل استعادة جميع جثث الأسرى الإسرائيليين الذين لا تزال حركة "حماس" تبحث عنهم وسط الدمار والركام. وحتى الآن استطاعت الحركة إعادة رفات 15 أسيرًا إسرائيليًا من أصل 28 لقوا حتفهم وسط محاولات حثيثة تجريها من أجل عدم إعطاء أي ذريعة لاسرائيل لخرق الاتفاق أو الهدنة الهشة التي تسيطر على القطاع المنكوب. في حين تسعى تل أبيب بشخص نتنياهو لخلق العثرات وتجميد المباحثات التي تدفع نحوها واشنطن ودول اخرى كمصر وقطر وتركيا بهدف إرساء اتفاق بشأن القضايا العالقة وأهمها ما يتعلق باليوم التالي وسلاح "حماس" والانسحاب الاسرائيلي الذي لا يزال يسيطر على ما يوازي 53% من مساحة القطاع. وكانت المتحدثة باسم الحكومة جددت التأكيد بأن اسرائيل ستحتفظ بالسيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة، وذلك بعدما صرّح نتنياهو، في وقت سابق الأحد، أن تل أبيب هي من ستحدد القوات الأجنبية التي ستسمح لها بدخول القطاع ضمن القوة الدولية المقرر تشكيلها للمساعدة في إنهاء الحرب بموجب الخطة الأميركية.
ويسعى نتنياهو إلى إظهار نفسه وحكومته بموقع المنتصر بينما أهالي وعائلات الأسرى الاسرائيليين تتهمه والجيش بالمسؤولية عن إهدار دماء 43 من الرهائن الذين قتلوا خلال الأسر. والاتهامات الموجهة للمرة الاولى للقيادة العسكرية ترافقت مع مظاهرات حاشدة في تل أبيب والقدس وحيفا بمشاركة ما يقارب الـ50 ألف متظاهر مطالبين بإقامة لجنة تحقيق رسمية برئاسة قاضٍ تعيّنه المحكمة العليا وليس الحكومة. في سياق متصل، فتح الرئيس الفلسطيني محمود عباس الطريق أمام نائبه حسين الشيخ ليتولى منصب الرئيس القادم لحين إجراء الانتخابات العامة، في خطوة جاءت في توقيت شديد الحساسية وضمن محاولة لضمان انتقال سلس للسلطة وقطع الطريق على أي محاولة لتشكيل قيادات ومرجعيات أخرى. وأصدر عباس، الأحد، إعلانًا دستوريًا يقضي بأنه إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، في حالة عدم وجود المجلس التشريعي، يتولى نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، نائب رئيس دولة فلسطين، مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتًا. ولم تتضح الأسباب التي دفعت عباس لاتخاذ مثل هكذا قرار، إلا أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية قالت إنه اتُخذ بناء على طلب أميركي.
على المقلب الإيراني، قالت الحكومة الإسرائيلية إنها حددت قائدًا كبيرًا في "فيلق القدس" على أنه العقل المدبر خلف مؤامرات لشن هجمات تم إحباطها في أوروبا وأستراليا. وفي بيان مشترك لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) ومكتب نتنياهو تم الإشارة إلى أن الشخص المعني ممثل رفيع المستوى لإيران وإسمه "الجنرال عمار"، ووصف بأنه قائد بارز في"فيلق القدس" الذراع الخارجية لـ"الحرس الثوري". في المقابل، شنّ رئيس البرلمان الإيراني، محمد باقر قاليباف، هجومًا على الرئيس الأسبق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، متهمًا إياهما بوضع العصا في عجلة التعاون الاستراتيجي مع موسكو. وهذه الاتهامات تلقي بظلالها على المشهد العام الذي يشير إلى خلافات عميقة بين التيارين الإصلاحي والمحافظ بينما تشهد البلاد عودة العقوبات المشدّدة عليها جراء فشل التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي.
أما في السودان، فالأحداث مشتعلة هناك بعد إعلان قوات "الدعم السريع"، أمس، بسط سيطرتها كاملة على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور غربي البلاد، وذلك بعد معارك وصفت بـ"الطاحنة" بينها وبين الجيش السوداني. هذه التطورات دفعت بمساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر إلى المطالبة بتوفير ممر آمن للمدنيين المحاصرين في المدينة ذات البعد الاستراتيجي، حيث قال "مع تقدم المقاتلين داخل المدينة وقطع طرق الهروب، أصبح مئات الآلاف من المدنيين محاصرين ومرعوبين يتعرضون للقصف ويتضورون جوعًا ولا يحصلون على الغذاء أو الرعاية الصحية أو الأمان". وفي حال سقوط الفاشر رسميًا، فهذا سيعني سيطرة "الدعم السريع" على كل ولايات إقليم دارفور الخمس.
دوليًا، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال جولته الآسيوية اتفاق سلام بين كمبوديا وتايلاند، إلى جانب سلسلة صفقات تجارية أبرمها في ماليزيا، أمس، مبديًا ثقته الكبيرة في التوصل إلى اتفاق "عظيم" مع الرئيس الصيني شي جينبينغ عندما يلتقيه في كوريا الجنوبية الخميس، عقب يومين من المحادثات التجارية الهادفة لإنهاء التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم. في إطار منفصل، ندّد الكرملين بما أسماها محاولات لتقويض الحوار البنّاء مع واشنطن في شأن أوكرانيا مؤكدًا أنه من الخطأ الحديث عن إلغاء قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والتي كان منوي إنعقادها في بودابست.
الأحداث المتوترة من كل حدب وصوب تجد حيزًا لها ضمن عناوين ومقالات الصحف الصادرة اليوم وهنا أبرز ما ورد فيها:
اعتبرت صحيفة "عكاظ" السعودية أن "المشترك بين الوقف الجدي للنزاع في غزة وخطة العشرين بندًا لاستقرار مستدام من جهة، وتوقف الصراع الإسرائيلي الإيراني من جهة أخرى، هو حزم الرئيس ترامب في وضع حد للصراعات، وهو ما لا يعني بطبيعة الحال تغيّر الموقف من إسرائيل، بقدر ما يعني براغماتية من إدارة ترمب نحو دعم عملية السلام في المنطقة". وأضافت "بالطبع توجّه الولايات المتحدة رسائل واضحة عبر زيارات مسؤولي الإدارة، للتأكيد على أن العودة للحرب غير مطروحة، وذلك عبر جسر جوي انطلق من كوشنير-ويتكوف، مروراً بنائب الرئيس دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ولن ينتهي بالزيارة المرتقبة لمورغان أورتاغوس نائبة المبعوث الخاص بالشرق الأوسط، لكن الرسائل أيضًا شملت رفضًا حادًا لمناقشة الكنيست لمشروع ضم الضفة الغربية".
صحيفة "الدستور" الأردنية، بدورها، رأت أن "الرّد على خطة ترامب المعادية للشعب الفلسطيني، والتي تم طرحها خدمة إلى نتنياهو وللمستعمرة، يكون ذلك بالوحدة الوطنية، ووحدة منظمة التحرير، وأن تكون السلطة للدولة الفلسطينية وحكومتها المعترف بها دوليًا على أساس الجغرافيا التي تجمع الضفة والقطاع وعاصمتها القدس"، مستنتجة أن "انقسام الوضع والمؤسسة والشعب الفلسطيني خدمة مجانية يتم تقديمها للاحتلال، وكلا الطرفين يتحملان مسؤولية استمرار هذا الانقسام، فالذي وقع بعد 7 أكتوبر عليه أن يشكل الحوافز القوية للقفز عن الفصائلية والانقسام باتجاه الوحدة"، وفق تعبيرها.
أما صحيفة "البلاد" البحرينية، فأشارت إلى أنه "بعد أن وضعت الحرب في غزة أوزارها أخيرًا، تقف إسرائيل أمام معادلة صعبة: نصر عسكري صريح، تقابله هزيمة سياسية ودبلوماسية غير مسبوقة. ونجحت إسرائيل في تدمير بنية "حماس" العسكرية والسياسية إلى حد كبير، وأضعفت معظم خصومها في الشرق الأوسط، لكن انتصاراتها العسكرية في الميدان على مدار العامين الماضيين لم تترجم إلى مكاسب سياسية بعد أن واجهت الدولة العبرية عزلة شاملة". وخلصت إلى القول إن "تل أبيب التي تحاول الخروج من عزلتها اليوم، تدفع ثمن سياسات نتنياهو الذي اختار حربًا بلا هدف عسكري واضح لمجرد الحفاظ على موقعه في السلطة والهروب من معارك قانونية يتهم فيها بقضايا فساد لطالما أصر على نفيها".
في إطار مختلف، تناولت صحيفة "اللواء" اللبنانية إطلالة الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم التي أشارت إلى أنه "تجاهل مسؤولية الحزب، بالدخول في حرب "الاسناد" منفردًا ومن جانب واحد،استجابة لاوامر وتعليمات النظام الايراني، وما تسبب به من استجرار اعتداءات اسرائيلية واسعة النطاق على لبنان، واحتلال اراضٍ لبنانية، كانت محررة من قبل وتحويل المناطق والقرى الجنوبية المواجهة للحدود ، الى ارض مهدمة ومحروقة". وأضافت "لم تكن ردود الفعل الاولية لدى جمهور الحزب ومؤيديه،على اطلالات الامين العام الجديد، مشجعة، وحتى مقبولة. ولم يعد سراً الشعور بامتعاض غالبية المؤيدين من هزالة المشهد وركاكة الخطاب السياسي، وقوبلت ببرودة لافتة، وانتقادات واسعة"، على حدّ قولها.
(رصد "عروبة 22")

