ثقافة

التعليم في تونس.. تكاليف باهظة ومشاكل بنيوية (2/1)

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

منذ الاستقلال كانت السياسة التعليمية أحد أبرز مزايا الدولة التونسية على الإطلاق، عبر فرض تعليم مجاني وموحّد لكلّ التونسيين، وتوجيه الميزانية الأكبر لوزارة التربية في ظلّ حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. وعلى مدار عقود كان يُنظر إلى التعليم على أنه "مصعد اجتماعي"، بخاصة لدى الطبقات الوسطى والفقيرة التي راهنت على تعليم أبنائها لتحقيق حياة أفضل.

التعليم في تونس.. تكاليف باهظة ومشاكل بنيوية (2/1)

هذه الميزة بدأت تختفي منذ أكثر من عقد وتفاقمت في السنوات الأخيرة، بحيث أصبحت "مجانية التعليم" مجرد شعار في ظلّ ارتفاع تكاليف الدراسة بالمدرسة العمومية وتراجع جودتها، بالإضافة إلى المعارك المتكررة بين وزارة التربية ونقابات التعليم التي استخدمت التلاميذ كرهينة للحصول على مطالبها المادية أساسًا. أوضاع باتت تدفع الأولياء المقتدرين للهجرة إلى المدارس الخاصة التي تضاعف عددها في غضون سنوات قليلة وباتت عنوانًا للتعليم الجيّد والبعيد عن ابتزاز النقابات، ليكون المشهد عبارة عن مدرسة عمومية تغطّ في مشاكل لا حصر لها، ومدرسة خاصة تقدّم تعليمًا جيدًا لمن استطاع إليه سبيلا.

ككلّ سنة، تبدأ الاستعدادات في تونس للعودة المدرسية منذ بداية سبتمبر/أيلول، عبر شراء المستلزمات والتسجيل في المدارس والمعاهد والجامعات. لكن تبدو هذه المهمّة صعبة هذه السنة على مجمل الأولياء في ظلّ ارتفاع أسعار الكتب والكراسات والمحفظات المدرسية بشكل كبير، في وقت تشهد فيه المقدرة الشرائية للعائلات التونسية تدهورًا كبيرًا.

لمياء (موظفة وأمّ لطفلين أحدهما في المرحلة الابتدائية وأخرى في الإعدادي)، تقول لـ"عروبة 22": "مع بداية كل سنة تتلاشى فكرة مجانية التعليم، فالعائلة المتوسطة التي لا يتعدى عدد أطفالها اثنين أصبحت غير قادرة على توفير كل المستلزمات المدرسية لأبناها"، وتضيف: "بعد معاينة الأسعار أخبرتُ طفلاي بأنني لن أشتري لهما حقائب مدرسية جديدة وأنهما سيستخدمان حقيبتيهما القديمة. وأجدني اليوم أتساءل إذا كانت العائلة متوسّطة الدخل بلغت هذا المستوى من العجز، فكيف سيكون حال العائلات الفقيرة؟ لا أدري أين الدولة من كل هذا لقد أنهكنا فعلًا".  

"مجانية التعليم" أصبحت في تونس من قبيل الوهم

وارتفعت كلفة العودة المدرسية في تونس للسنة الدراسية 2023/2024 بنسبة تتراوح بين 15 و20%، مقارنةً بالسنة الفائتة، وشملت الزيادة جميع مكونات العودة المدرسية حسب المنظّمة التونسية لإرشاد المستهلك. وقدّر لطفي الرياحي رئيس المنظمة أن تبلغ كلفة العودة المدرسية بالنسبة لتلميذ في المرحلة الابتدائية 600 دينار (200 دولار) و700 دينار للمرحلة الثانوية، وفي حال ترشيد قائمات المستلزمات المدرسية يمكن أن تصل كلفة العودة المدرسية لتلميذ المرحلة الابتدائية إلى 500 دينار، وإلى 600 دينار بالنسبة لتلميذ المرحلة الثانوية. "وهي تكاليف باهظة تجاوزت المعدلات المعقولة، وأصبحت تشكّل عبئًا ثقيلًا على العائلات التونسية التي أصبح الكثير منها عاجزًا عن تلبيتها"، يقول الرياحي.

وإذ تبدو هذه المعدلات طبيعية للبعض في العالم العربي لكنها تبقى مرتفعة جدًا مقارنةً بدخل الأولياء في تونس ومقدرتهم الشرائية، الأمر الذي أكد عليه رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني بإشارته إلى أنّ "أولياء التلاميذ أصبحوا يعانون الأمرّين جراء تدهور المقدرة الشرائية، والعائلات الفقيرة لم يعد بإمكانها تحمّل كل هذه المصاريف، لا سيّما وأنّ الكتب والكراسات المدعمة التي توفرها الدولة لا تتجاوز 40 بالمئة ولا تذهب إلى مستحقيها"، مشددًا على أنّ "مجانية التعليم أصبحت في تونس من قبيل الوهم".

هذا الارتفاع في أسعار المستلزمات المدرسية تسبّب في انقطاع عدد كبير من التلاميذ الذين عجزت عائلاتهم عن شراء مستلزماتهم، لا سيما في المناطق الداخلية والأرياف حيث معدلات الفقر مرتفعة. يحدث هذا في وقت يبالغ فيه المدرّسون في تونس بطلب عدد كبير من الكراسات وغيرها من الأدوات فضلًا عن الدروس الخصوصية التي باتوا يفرضونها على الجميع بمقابل مرتفع دون مراعاة الوضع الصعب للأهالي.

ولا تتوقف الأمور عند هذا الحد، فبمجرّد الانتهاء من معضلة مستلزمات العودة المدرسية، تجد العائلات أبناءها ضحية معركة بين نقابات التعليم الطامعة في تحقيق بعض الامتيازات المادية، ووزارة التربية والتعليم التي ترى أنّ الوضع الراهن لا يحتمل أيّ إمكانية للزيادة في الأجور وتطلب تأجيل الأمر سنتين أو أكثر.

أزمة النقابات

منذ سنة 2012 بدأت رحلة المواجهة بين وزارة التربية ونقابات التعليم، في البداية فُتح باب التفاوض بين الجانبين حول جملة من المطالب المادية تتعلق بالأجور والمنح وشروط التقاعد والترقيات، وبيداغوجية مرتبطة بالتكوين وإصلاح التعليم وإعادة تهيئة البنية التحتية للعديد من المؤسسات التربوية.

ومع بداية سنة 2013 انطلق مسار يدور في حلقات مفرغة ولم يؤدّ إلا للمزيد من ترذيل التعليم العمومي وتنفير التلاميذ والأولياء من هذه المدارس وضرب صورة المدرّسين في المدرسة العمومية. كان المسار عبارة عن مفاوضات لا تطبّق مخرجاتها، تليها تحرّكات احتجاجية ترعاها نقابات التعليم، فعودة مجددًا للمفاوضات الغير مثمرة يليها تصعيد نقابي بدأ يأخذ منعرجات خطيرة منذ سنة 2015 عندما قرّر معلّمو المدارس الابتدائية مقاطعة الامتحانات، الأمر الذي قابلته وزارة التربية بالارتقاء الآلي للتلاميذ إلى للمستوى الموالي، وصولًا إلى الإضراب الأطول في تاريخ نقابات التعليم سنة 2019، ثم ختامًا قرار حجب الأعداد في السنة الدراسية 2021/2022 الذي كان أحد أبرز التحرّكات التي واجهتها وزارة التربية بالتخلي نهائيًا عن 187 مدير مدرسة ابتدائية، وحجز أجور شهر تموز / يوليو لحوالى 4 آلاف مدرّس على خلفية التمسّك بحجب الأعداد.

(... يتبع)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن