صحافة

تفكيك "ألغاز" زيارة الشرع إلى موسكو

محمد السعيد إدريس

المشاركة
تفكيك

بعد مرور ما يقرب من عشرة شهور على سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، زار موسكو أحمد الشرع رئيس "سوريا الجديدة" والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أفخم قاعات الكرملين (القاعة الخضراء) التي استقبل فيها عدداً محدوداً من الزعماء ليس من بينهم بشار الأسد، رغم كل ما كان يربط "سوريا الأسد" بروسيا من مصالح وعلاقات، الأمر الذي فرض سؤالاً مهماً فتح بدوره الأبواب أمام عشرات من الأسئلة الأخرى تخص حاضر علاقات البلدين ومستقبلها، من دون تجاهل للماضي عند مراجعة وإعادة تقييم وبناء نموذج العلاقات الجديدة السورية – الروسية.

هذا السؤال هو: كيف استطاع الطرفان الروسي والسوري تجاوز محنة سقوط نظام بشار الأسد من المنظور الروسي، باعتبار أن هذا النظام كان ركيزة استراتيجية روسية كبرى في الشرق الأوسط؟ وكيف استطاعت سوريا "الجديدة" تجاوز الأدوار التي قامت بها روسيا دفاعاً عن نظام الأسد في مواجهة المعارضة السورية؟ الإجابة المباشرة عن هذا السؤال "المحوري" هي إدراك الطرفين وجود حاجة مشتركة لتجاوز الماضي من أجل المستقبل، فروسيا في حاجة ماسة إلى سوريا للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية خاصة في قاعدة حميميم الجوية، وقاعدة طرطوس البحرية من ناحية، والحفاظ على استثماراتها ومصالحها الاقتصادية في سوريا الممتدة عبر عشرات المجالات والمشروعات الاقتصادية، خاصة في مجال الطاقة من ناحية أخرى، ناهيك عن الديون السورية الهائلة لروسيا، فضلاً عن طموحات روسيا أن تكون لها حصة في "كعكة" إعادة إعمار سوريا.

إعادة تحليل الدوافع الرئيسية لروسيا للدخول كطرف مباشر في الدفاع عن نظام بشار الأسد عام 2015، يمكن أن تقدم إيضاحات عن مبررات الحرص الروسي للعودة إلى سوريا. كان هناك هدفان استراتيجيان لروسيا للدخول العسكري في الحرب الأهلية السورية، أولهما تحدي الهيمنة الأمريكية على الساحة العالمية من خلال العمل الجاد لمنع الولايات المتحدة من السيطرة على سوريا، لتوظيفها في عملية إعادة هندسة النظام الإقليمي الشرق أوسطي على الهوى الأمريكي.

أما الهدف الثاني فهو محاربة ما سمي بـ"التطرف الإسلامي" في سوريا حتى لا يمتد تأثير موجة انتصارات الجماعات الإسلامية المتطرفة من سوريا إلى روسيا، أخذاً بتجربة حرب الشيشان وشمال القوقاز على روسيا الاتحادية. والآن تتجدد هذه الأهداف، فروسيا تريد العودة إلى الشرق الأوسط للتصدي للنفوذ الأمريكي المتصاعد، ولجعل سوريا قاعدة إمداد ودعماً للمصالح الروسية المتصاعدة في إفريقيا، وهنا يتجدد الحرص الروسي في الحفاظ على قاعدتيها في سوريا للقيام بهذه الأدوار.

سوريا الجديدة في حاجة شديدة هي الأخرى لاستعادة روسيا كقوة دولية داعمة للنظام الجديد في ظل ما أخذ يتأكد في الأسابيع الأخيرة التي سبقت زيارة الشرع إلى موسكو، خاصة فتور الدعم الأمريكي لهدف "وحدة الأراضي السورية"، بسبب ما تأكد من انحياز أمريكي لأكراد سوريا وتنظيماتهم المسلحة في الشمال الشرقي لسوريا الذي يخضع للسيطرة الأمريكية، خاصة ما يعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، وفتور الدعم الأمريكي لسوريا في مواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية في الجنوب السوري والجولان، والدور الذي تلعبه إسرائيل في مخطط "تفكيك سوريا".

هذا الفتور أو "السلبية" الأمريكية في دعم مسعى نظام سوريا الجديدة الداعي إلى دمج الأكراد في الوطن السوري الموحد، الرافض لدعوة الأكراد لتحويل سوريا إلى دولة فيدرالية، تعطيهم استقلالية وخصوصية في العلاقة مع دمشق، خلق "حاجة ماسة"، لاستعادة "الدور الروسي" وتوظيفه لدى الأكراد، لإنجاز حل وطني سوري، يحفظ وحدة سوريا أرضاً وشعباً. إن النظام السوري الجديد بات يدرك أن سياسته في التقارب مع إسرائيل لم تأت بثمارها على نحو ما عبّر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في حديث له مع شبكة "سي إن إن" بقوله: إن الضربات الإسرائيلية على بلاده جعلت تطبيع العلاقات مع إسرائيل صعباً، مضيفاً أن إسرائيل أعاقت جهود الحكومة السورية في جنوب البلاد عندما تصاعد العنف الطائفي في محافظة السويداء. وكان مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية قد أعلن في (24/9/2025) أن هناك مفاوضات جارية مع سوريا، وأن نتائجها مرهونة بضمان مصالح إسرائيل، بما في ذلك نزع السلاح في جنوب غربي سوريا، وسلامة أمن الدروز.

سوريا تأمل في دور روسي "ضامن" لمصالح الطرفين السوري والإسرائيلي من ناحية، وداعم لوحدة سوريا من ناحية أخرى. هكذا فرضت المصالح المشتركة نفسها على الطرفين الروسي والسوري، لتجاوز الماضي طموحاً إلى مستقبل يحقق مصالحهما معاً، في تجربة شديدة الأهمية ودرس شديد البلاغة في القدرة على التكيف في مواجهة المشاكل والأزمات من أجل تحقيق المصالح والأهداف.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن