وبقدر ما لا يمكن إنكار الانكسارات والانتكاسات المُدوّية التي شهدتها المنطقة منذ موفّى ستينيّات القرن العشرين بما يعكس فشلًا ذريعًا في تحقيق تطلّعات الشعوب العربية، فإنّه لا يمكن التغاضي عن بعض النجاحات على الرَّغم من محدوديّة تأثيرها واستمراريتها. إذ لا سبيل إلى إنكار محاولات أجيالٍ من المُصلحين السياسيين والمفكّرين، نذروا حياتهم لتحقيق مشروع التقدّم والنهضة المأمول، منذ زمن محمد علي باشا إلى زمن عبد الناصر وبورقيبة والملك فيصل وبومدين. كما لم يتوقّف عديد المفكّرين عن اقتحام مُختلف المجالات أمثال الأفغاني وعبده وشبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى ونديم البيطار وأنور عبد الملك وعبد الله العروي وسمير أمين وإلياس مرقص وياسين الحافظ وجورج قرم وغيرهم.
من مؤشّرات تصدّع الذّات العربية بروز كيانات وظيفية تعمل ضدّ الدولة الوطنية والقومية لخدمة أجندات إقليمية ودولية
بَيْدَ أنّه منذ حرب الخليج الثانية والاجتياح العراقي للكويت (1990-1991) تعمّقت شروخات الذّات العربية وتعفّنت إلى حدٍّ أضحت فيه الدول العربية عاجزةً عن توفير الحدّ الأدنى من ضمانات استقرارها الداخلي وتوازن علاقاتها الخارجية. ولئن أحيت الثورة التكنولوجية والاتّصالية والدخول الفعلي إلى العصر الرقمي آمالًا جديدةً في استفاقة العرب من غيبوبتهم المُزمنة، فإنّ مفارقة الواجب والحاصل تمدّدت وتوسّعت. فبدل أن تسهم تلك التكنولوجيات المتطوّرة في استئناف العالم العربي لحداثته المُعطّلة بإرادةٍ أكبر وقدراتٍ أمتن، حدث العكس وأضحت تلك الوسائط التكنولوجية والاتصالية المتطوّرة آلياتٍ لاستفحال الردّة الحضارية والانغماس العصابي في ماضٍ مؤبّدٍ موهوم. وهو ما أحدث زلازل اجتماعية وسياسية ما زال ارتدادها مُتواصلًا إلى اليوم، وما بروز كياناتٍ وظيفيةٍ تعمل ضدّ مشروع الدولة الوطنية والقومية ــ حتّى داخل الدول العربية ــ لخدمة أجندات قوى إقليمية ودولية، إلّا من مؤشّرات تصدّع الذّات العربية.
الحالة العربية ليست حالةً ميؤوسًا منها إذا ما تذكّرنا أنّ التجديد ناموس تاريخي وأزلي في منظومة الدورات الحضارية
قد يرى بعضهم أنّ الحديث في هذا الظرف عن إعادة تجديد بناء الذّات العربية شكلٌ من أشكال حلمٍ رومنسيّ بعيد المنال. لكنّ الاطّلاع على بعض التجارب الحضارية المقارنة يُثبت أنّ الحالة العربية ليست حالةً ميؤوسًا منها إذا ما تذكّرنا أنّ التجديد أو التطوّر ناموس تاريخي وحضاري أزَلي في منظومة الدورات الحضارية. ومن ثمّة فهو طور آتٍ لا محالة سواء طوعًا أو كرهًا بحكم أنّ الحضارة الكونية متّجهة أكثر فأكثر إلى المزيد من الاندماج والانصهار على الرَّغم من التوتّرات والقلاقل المُتعدّدة التي تسمّ العلاقات الدولية في الظرف الراهن.
لقد انتبه مبكّرًا الطاهر الحداد (1899-1935) ــ وهو رائد تونسي اهتمّ بالحركة العمّالية وتحرير المرأة ــ إلى أنّ مَن لا يتطوّر يحكم على نفسِه بالجمود والتكلّس فينتهي إلى العدميّة والفناء والموت. بَيْدَ أنّ إعادة تجديد بناء الذّات يتطلّب توفّر مجموعةٍ من الضوابط أو النواظم لعلّ أوّلها الضابط الأخلاقي بإعادة بناء الثقة بين الجانبَيْن الرسمي والشعبي أو النّخبة والمجتمع ببناء علاقةٍ أساسها المصداقية من شأنها اختزال الكثير من الجهود والشروح والتبريرات. وهو ما يجعل من قضية بناء الذّات الحضارية مسألةً مصيريةً جماعيةً غير قابلةٍ للتلكّؤ والتردّد والتهاون.
لم تعد الحاجة إلى زعيم مُلهم وإنّما إلى مؤتمن على تحقيق السياسات العامة بما يُحقّق إعادة بناء الذّات العربية المُبدعة
أمّا الضابط الثاني فثقافيّ يخصّ حتمية تغيير البنى الذهنية التي توارثتها أجيال مثل التواكل والتحايل على القوانين عبر تصحيح الاعتقادات الخاطئة سواء أكانت دينية أم إيديولوجية، بما يسمح بصياغة تمثّلاتٍ وتصوّراتٍ جديدةٍ للدين والسلطة ومختلف الأنظمة الرمزية والمادّية، فتُعيد الذّات العربية إعادة اكتشاف ذاتها والعالم. ولا شكّ أنّ الضابط الاقتصادي يظلّ قطب الرّحى. وهو ما يتطلّب تحرير المبادرات الخاصّة بدل المكابرة والعناد في الإبقاء على قطاعٍ عامٍّ مُترهّلٍ متآكلٍ مردوديّته الإنتاجية سلبية وتكاليف بقائه واستمراره باهظة على المجموعة الوطنية.
لا يمكن أن تتطوّر النّظم والتشريعات والقوانين بما ينسجم مع رهان إعادة تجديد بناء الذّات من دون ضابطٍ سياسيّ متمثّلٍ في إرادةٍ سياسيةٍ واضحةٍ مبنيةٍ على التسليم بأنّ السياسة تجاوزت الطرح الماكيافيلي لتصبح علمًا قائم الذّات أساسه التخطيط الاستراتيجي. لذلك لم تعد الحاجة إلى سياسيّ نبيّ أو زعيمٍ مُلهمٍ لا يُشقّ له غبار، وإنّما إلى مؤتمنٍ على تحقيق السياسات العامة وِفق تمشّيات وتوازنات وضعها الخبراء بما ينسجم مع الصالح العام ويُحقّق رهانات إعادة بناء الذّات العربية المُبدعة القادرة على الإسهام بفعّاليةٍ ونجاعةٍ في مسار الحضارة الكونية المعاصرة.
(خاص "عروبة 22")

