لا شكّ أنّ تأثير العوامل الداخلية في عودة الإضطراب إلى سوريا تحتلّ الأولوية، لكنها تتداخل وتتشابك مع عوامل خارجية مع خضوع سوريا وتقسيمها بين نفوذ خمس دول متناحرة ومتباينة بشكل أو بآخر، تملك أربع منها وجودًا عسكريًا على الأرض والخامسة تتدخّل من الجو!.
إلى ذلك أصبح الشأن الداخلي السوري متشابكًا ومركّبًا بذاته، ولم يعد مقتصرًا على مصير النظام بل تعدّاه إلى انهيار وتفكّك المجتمع السوري الذي إضافة إلى الحرب، عانى على مدى أكثر من نصف قرن من حكم البعث بنسخة آل الاسد، كانت نتيجته تفريغ البلد من السياسة والسياسيين عبر اقتلاع الرموز والنخب وقتلها أو سجنها ونفيها وتهجيرها. إلى ذلك، أمعن نظام الأسد بترييف المدن من الشام إلى حلب وحمص وحماة وغيرها، عبر تغيير نسيجها الاجتماعي ثقافيًا وطائفيًا، واعتماد سياسة التفرقة وترهيب الناس وزرع الخوف في نفوسهم. حصيلة هذه السياسة ظهّرتها مآلات الثورة السورية على مدى السنوات الـ12 من عمرها، والتي إن دلّت على شيء فعلى خواء الساحة السياسية والعجز عن إفراز بديل للنظام، وهذا من الأسباب الرئيسة لفشلها إلى جانب عوامل أخرى متعدّدة أغلبها خارجي.
الأسد يعرف أنّ سقوطه أو بقاءه لا يتوقف على الانتفاضة الداخلية بل على المصالح الدولية والإقليمية
لعلّ تضخّم العوامل والتدخلات الخارجية يعود لهشاشة المكوّن المعارض الداخلي وتشرذمه، ولا يصحّ في هذا السياق إغفال طبيعة النظام ودوره على الصعيد الإقليمي منذ حرب عام 1967 وحتى اليوم مع تبنيه سياسات ملتبسة، ظاهرها تشدّد وممانعة ورفض "التفريط بالقضية الفلسطينية"، وحقيقتها تعطيل وتخريب لمسارات كثيرة أهمّها مبادرات السلام والسعي إلى الهيمنة والتسلّط على القرار الفلسطيني المستقل وفيما بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية واستبدالها بالمقاومة "الحزب اللاهية" الطائفية، والخروج عن الإجماع العربي في الحرب الإيرانية-العراقية، وخطف لبنان على مدى أكثر من ربع قرن، وزعزعة أمن الأردن والعراق، ومهادنة غير مبرّرة لإسرائيل جعلت من الجولان الجبهة الأكثر إستقرارًا لأكثر من أربعين سنة.
وقد يكون الموقف الإسرائيلي الداعي إلى التريّث بإسقاط النظام السوري، هو من الأسباب التي أدّت إلى إطالة أمد الحرب، كون إسرائيل تؤثّر إلى حد ما على الموقف الأميركي الذي بدا على مدى سنوات الحرب مترددًا أولًا وملتبسًا ثانيًا لا سيما بالنسبة لسقوط النظام. الحجج كثيرة، أوّلها عدم وجود البديل باعتبار أنّ البدائل على الأرض إما إسلامية متشدّدة وإما وطنية قومية معادية لإسرائيل، والقوى الليبيرالية ضعيفة ومشتّتة وبإعتقادهم معادية لإسرائيل أيضًا، فلم تحظَ بالدعم والمساندة المطلوبَين كي تلعب دور البديل الصالح. كل هذه العوامل أوصلت الحال إلى ما هي عليه: بلد مدمّر محتلّ يعاني من نزوح داخلي وخارجي وبنية مدمّرة ونظام مقيّد متصلّب ومتمسّك بالسلطة لآخر رمق.
العوامل الخارجية والمتداخلة والمتأثّرة في آن واحد مع الداخل، تكاد تنقل توتّر العلاقات الدولية المأزومة إلى الداخل السوري على وقع الصراعات الحادة جراء الحرب الأوكرانية والتوتر الغربي-الروسي والغربي-الصيني من ناحية ثانية. في سوريا، عوامل عدة تتناحر أحيانًا وتتعايش أحيانًا أخرى على وقع مستجدات دولية وإقليمية أبرزها الأميركي-الإيراني والروسي-الأميركي والإسرائيلي-الإيراني، والتركي-الكردي، والتركي-الإيراني، والتركي والنظام الذي وصل إلى حدود تصريح مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّ تركيا تحتاج إلى البدء بالمطالبة بجعل حلب وحتى حمص وحماة آمنة تحت سيطرة الأمم المتحدة.
ما هي آفاق المستقبل بالنسبة إلى سوريا؟ تقتضي الإجابة مراجعة للأوضاع الحالية في مختلف المناطق السورية من الساحل إلى دير الزور شرقًا، ومن الجنوب إلى حدود تركيا شمالًا، وكلّها تؤشّر إلى وجود تباينات عميقة بين أطياف المجتمع السوري.
في شرق سوريا وشمال شرقها إشتباك عربي - كردي في دير الزور وصلت تداعياته إلى كركوك وأثبت أنه أعمق من أن يكون وراءه مؤامرات النظام بل خلافات إثنية وتصدّعات اجتماعية عميقة.
في جنوب سوريا، عادت حيوية الاعتراض لتدبّ في درعا واجتاحت التظاهرات المناهضة للنظام السويداء معقل الأقلية الدرزية التي لطالما حافظت على حيادها بين المعارضة والنظام، صادحةً بمطالب سياسية إلى جانب المعيشية ليصبح الجنوب برمّته خارج سيطرة الأسد.
انتقلت عدوى الاحتجاجات إلى عرين الأسد وحاضنته العلوية في مدن الساحل السوري في صدمة قوية للنظام السوري الذي راهن على عصبته الطائفية طيلة السنوات الماضي. ويبدو النظام السوري مقيّدًا في أمر إطلاق العنان لقواته لإخماد احتجاجات العلويين بالتحديد ويحاول الحفاظ على حاضنته الشعبية بعيدًا عن سطوة سيفه المعتادة. مع ذلك لدى النظام وسائل عدة للتعامل مع هذا الحراك كإحياء خطر "داعش" في المناطق التي تشهده، كذلك التوترات والتململ بين العلويين والدروز، نزع عن الأسد غطاء "حامي الأقليات" ضد الأكثرية السنّية ويعرّض ركيزة أساسية من ركائز حكمه للخطر.
همّ الجوع وحّد السوريين ولن يبقى على القوى الإقليمية والدولية سوى ضبط سقوط الأسد والتخفيف من ذيوله
يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل القريب، كما يصعب الترجيح أنّ المشاكل الاقتصادية وحدها قد تسقط النظام، فالأسد يعرف أنّ سقوطه أو بقاءه لا يتوقف كما بيّنت سنوات الثورة على الانتفاضة الداخلية بل على المصالح الدولية والإقليمية، من إيرانية وتركية وأميركية وروسية وإسرائيلية، عمل على إنقاذ نفسه بالتسلّل عبر شقوقها. لكن ما يحدث الآن على الأرض لا بدّ أن يدفع القوى الإقليمية والدولية للسؤال عن جدوى بقاء بشار الأسد في السلطة، لا سيّما أنّ تكاليف بقائه باتت أكثر من تكاليف التخلّي عنه. كل محاولات تعويمه بناءً على تبادل المصالح، وآخرها إعادته إلى الجامعة العربية، باءت بالفشل في ظلّ اعتماده نهج الأخذ دون أن يعطي. الأسد لا يقدّم أيّ تنازلات، ينتطر ولا يبادر ويتلكّأ في التفاوض على تسوية سياسية للحرب ويراهن على الوقت وعلى مواصلة حلفائه دعمه، علمًا أنه أعطاهم كلّ شيء واستنفد أوراقه وسبل إقناعه لهم بارتباط مصالحهم باستمرار حكمه.
الحق يقال إنّ أكثر من يدرك اليوم استحالة أن يواصل الأسد حكم سوريا هم حلفاء الأسد نفسه، سيّما أنّ همّ الجوع وحّد السوريين، موالين ومعارضين، بعد أن فرّقتهم السياسة، ولذلك باتت خطورة بقائه مضاعفة مع مواصلته تضييع الفرص من منطق إمّا أنا أو تحترق سوريا، ولن يبقى على القوى الإقليمية والدولية سوى ضبط ذلك السقوط والتخفيف من ذيوله.
الاحتمالات المتاحة والمرجوة أن ينجح الضغط والوضع الإقتصادي بالتخفيف من تصلّب النظام وأن يلتزم الأسد بوعوده والتفاوض بموجب قرار مجلس 2254 والتعديلات الدستورية، بين أمور أخرى. وعلى الرغم من أنه من غير المرجّح أن يسقط النظام في أي وقت قريب، إلا أنّ الاحتجاجات المتزايدة في المناطق الموالية تقليديًا قد تغيّر هذا الواقع.
(خاص "عروبة 22")