العرب والعالم ... الصراعات والمصالح

الجنوب الليبي: صراعٌ مَفتوح بين الدْبَيْبَة وَنَجْل حفتر!

شَهِدَتِ السّاحَةُ اللّيبيَّةُ تَحَوُّلًا مَيْدانِيًّا لافِتًا، مَعَ اِنْتِقالِ مِحْوَرِ الصِّراعِ مِنْ طَرابُلُس في الغَرْبِ وَبَنْغازِي في الشَّرْقِ، إلى الجَنوبِ حَيْثُ تَتَقاطَعُ الحِساباتُ السِّياسِيَّةُ والعَسْكَرِيَّةُ والقَبَلِيَّةُ، مَا يُؤَسِّسُ لِمَرْحَلَةٍ جَديدَةٍ مِنَ الصِّراعِ بَيْنَ عبد الحميد الدّبيبة رَئِيسِ حُكومَةِ الوَحْدَةِ المُوَقَّتَةِ، وَصدّام نَجْلِ وَنائِبِ المُشِيرِ خليفة حفتر قائِدِ الجَيْشِ الوَطَنِيِّ، الَّذِي يُحاوِلُ تَثْبيتَ مَوْقِعِهِ كَوَريثٍ مُحْتَمَلٍ لِوالِدِهِ في شَرْقِ البِلاد.

الجنوب الليبي: صراعٌ مَفتوح بين الدْبَيْبَة وَنَجْل حفتر!

على نَحْوٍ مُفاجِئٍ، باتَ الجَنوبُ اللّيبِيُّ ساحَةً لِصِراعٍ مَحْمومٍ وَمُعْلَنٍ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَكَأَنَّهُما اِتَّفَقا ضِمْنِيًّا على اِتِّخاذِهِ مَلْعَبًا مُحايِدا.

بَعْدَ سَنَواتٍ مِنْ مُعاناةِ التَّهْميشِ والإِقْصاءِ، دَشَّنَ صدّام بِتَكْلِيفٍ مِنْ والِدِهِ حفتر، مُبادَرَةً لِلتَّنْمِيَةِ في الجَنوبِ في إِطارِ رِحْلَةٍ بَدأَها بَعْدَ صُعودِهِ إلى مَنْصِبِ الرَّجُلِ الثّانِي في المُؤَسَّسَةِ العَسْكَرِيَّةِ، الَّتِي أَعادَ حفتر إِحْياءَها مِنَ العَدَمِ شَرْقا.

مُنافَسَةٌ عَلَنِيَّة

حفتر الَّذِي يَفْرِضُ نُفوذَهُ على شَرْقِ ليبْيا وَمُعْظَمِ مَناطِقِهَا الجَنوبِيَّةِ، فُوجِئَ بِمُنافِسِهِ التَّقْلِيدِيِّ الدبيبة يُغادِرُ مَقَرَّهُ الدائِمَ في العَاصِمَةِ طَرابُلُس مُتَوَجِّهًا جَنُوبًا، بِزِيارَةٍ مَيْدانِيَّةٍ لِأَحَدِ مَقَراتِ حَرَسِ الحُدودِ في القَلْعَةِ التّارِيخِيَّةِ في السَّدادَةِ، وَهِيَ مِنْطَقَةٌ اِسْتِراتيجيَّةٌ في وَسَطِ ليبْيا تَقْرِيبا.

وَعَقِبَ هَذِهِ الجَوْلَةِ، أَعادَ حفتر تَنْظيمَ وَحَداتِهِ العَسْكَرِيَّةِ في جَنوبِ وَوَسَطِ ليبْيا، بِإِنْشاءِ ثَلاثَةِ أَلوِيَةٍ جَديدَةٍ وَتَعْديلِ هَيْكَليَّةِ الوَحَداتِ العَسْكَرِيَّةِ العامِلَةِ في فزان والجُزْءِ الأَوْسَطِ الشَّرْقيِّ مِنَ البِلادِ، ضِمْنَ خُطَّةِ التَّرْوِيجِ لِحَراكٍ سِياسِيٍّ واجْتِمَاعِيٍّ يَدْعو السُّكّانَ لِتَقْريرِ مَصيرِهِمْ وَدَعْمِ تَرَشُّحِهِ المُحْتَمَلِ لِلاِنْتِخاباتِ الرِّئاسِيَّةِ في حالِ إِجْرائِها.

وَتُشَكِّلُ المَناطِقُ الوُسْطَى والجَنوبِيَّةُ مَرْكَزًا اِسْتِراتيجيًّا لِلتَّحَكُّمِ في تَدَفُّقاتِ التِّجارَةِ وَطُرُقِ الهِجْرَةِ وَمَوارِدِ الطَّاقَةِ، وَلِذَلِكَ تَكْتَسِبُ إِعادَةُ تَعْريفِ الهَيْكَلِ العَسْكَريِّ أَهَمِّيَّةً سِياسِيَّةً وَعَمَلِياتِيَّة.

في المُقابِلِ، أَكَّدَ الدبيبة دَعْمَ حُكومَتِهِ الكامِلَ لِلْوَحَداتِ كافَّةً المُكَلَّفَةِ بِتَأْمينِ الحُدودِ واسْتِمْرارِ العَمَلِ على تَطْويرِ قُدْراتِهَا لِضَمانِ أَداءِ مَهامِّها بِكَفاءَةٍ عالِيَة.

مَناطِقُ السَّيْطَرَة والاِسْتِحْواذ

وَيُعْتَبَرُ الجَنوبُ اللّيبِيُّ، الَّذِي يَشْمَلُ مُدُنًا رَئيسيَّةً مِثْلَ سَبْها وأوبارِي وَغات وَكفرة، مِنْطَقَةً مُتَنازَعًا عَلَيْها بِشِدَّةٍ، لَكِنَّ السَّيْطَرَةَ الفِعْليَّةَ هُناكَ لِقُواتِ الجَيْشِ الوَطَنيِّ بِقِيادَةِ حفتر، الَّذِي يُسَيْطِرُ على مُعْظَمِ الحُدودِ الجَنوبِيَّةِ والحُقولِ النَّفْطِيَّةِ الرَّئِيسِيَّةِ مُنْذُ عامِ 2019، مِمّا يَمْنَحُهُ نُفوذًا اِقْتِصادِيًّا وَعَسْكَرِيًّا قَوِيًّا مَدْعومًا بِالميليشْياتِ المَحَلِّيَّةِ والقَبائِلِ مِثْلِ التُّبو والطَّوارِق.

وَيَبْقَى نُفوذُ حُكومَةِ الدبيبة مَحْدودًا وَيَقْتَصِرُ على بَعْضِ المَناطِقِ الحُدوديَّةِ الغَرْبيَّةِ مِثْلِ غات وَمرزق، مُعْتَمِدَةً على تَحالُفاتٍ مُوَقَّتَةٍ مَعَ ميليشْياتٍ مُتَغَيِّرَةِ الوَلاءِ، على الرَّغْمِ مِنْ حُصولِهَا على اِعْتِرافٍ دَوْلِيٍّ مِنَ الأُمَمِ المُتَّحِدَة.

وَفْقًا لِلتَّقْديراتِ، يُسَيْطِرُ حفتر على نَحْوِ 70-80% مِنَ الجَنوبِ (أَيْ أَكْثَرَ من 60% مِنَ الأَراضي اللّيبيَّةِ كَكُلٍّ)، مَعَ تَبَعِيَّةٍ عالِيَةٍ تَصِلُ إلى 80% مِنَ الميليشْياتِ المَحَلّيَّةِ، بَيْنَما لا تَتَجاوَزُ سَيْطَرَةُ حُكومَةِ الدبيبة في الجَنوبِ مَعَ تَبَعِيَّةٍ ضَعِيفَةٍ، 20-30%، مِمّا يَعْكِسُ الفَوْضى المُسْتَمِرَّة.

وَبَيْنَما تَبْدو المُنافَسَةُ بَيْنَ نَجْلِ حفتر والدبيبة مُحاوَلَةً لاِسْتِعادَةِ الثِّقَةِ في المَناطِقِ المُهَمَّشَةِ، يَبْرُزُ تَفَوُّقُ حفتر الَّذِي تَخْضَعُ مُعْظَمُ الحُدودِ الجَنوبِيَّةِ لِسَيْطَرَتِه.

وَهَكَذا يُؤَمِّنُ حفتر عُمْقَهُ اللُّوجيسْتِيَّ جَنوبًا اِسْتِعْدادًا لِأَيِّ تَسْوِيَةٍ أَوْ مُواجَهَةٍ مُحْتَمَلَةٍ في الشَّمالِ، فيما يُحاوِلُ الدبيبة كَسْرَ اِحْتِكارِ حفتر لِلْمَشْهَدِ العَسْكَرِيِّ، عَبْرَ إِظْهارِ أَنَّ حُكومَتَهُ قادِرَةٌ على التَّحَرُّكِ مَيْدانِيًّا خارِجَ طَرابُلُسَ، وَخاصَّةً في الجَنوبِ الَّذِي يُمَثِّلُ مِيزانَ القُوَى الحَقيقيَّ لِرَبْطِهِ الشَّرْقَ والغَرْب.

الجَنوبُ بَيْنَ النَّفْطِ والجُغْرافْيا

تَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ الجَنوبِ اللّيبِيِّ في كَوْنِهِ عُنْصُرًا حاسِمًا في الصِّراعِ السِّياسيِّ في البِلادِ، بِسَبَبِ مَوْقِعِهِ الجِيوسياسيِّ على حُدودِ الساحِلِ الأَفْريقيِّ، حَيْثُ أَصْبَحَ مَمَرًّا رَئيسيًّا لِتَهْريبِ السِّلاحِ والبَشَرِ، مِمَّا يُغَذّي النِّزاعَاتِ الإِقْليميَّةَ في دُوَلٍ مِثْلِ السّودان وَتشاد والنّيْجر، وَيُهَدِّدُ الاِسْتِقْرارَ الأوروبِيَّ من خِلالِ تَدَفُّقِ الإِرْهابِيّينَ والبَضائِعِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، ما يَجْعَلُ ليبْيا ساحَةً لِلصِّراعاتِ الجِيوسياسيَّةِ بِسَبَبِ هَذِهِ الحُدود.

وَيُسَيْطِرُ الجَنوبُ على حُقولٍ نَفْطيَّةٍ تُشَكِّلُ نَحْوَ 41% مِنْ اِحْتياطيّاتِ أَفْريقْيا، مِمّا يَجْعَلُهُ هَدَفًا لِلتَّنافُسِ الدَّوْلِيِّ ما بَيْنَ قُوًى مِثْلِ روسْيا والصِينِ، مُقابِلَ جُهودٍ أَميرْكيَّةٍ وأوروبِيَّةٍ لِتَعْزيزِ الأَمْنِ الحُدوديِّ لِمَنْعِ التَّخْريبِ في بِنْيَةِ النَّفْطِ وَمُعالَجَةِ الشَّكْوَى القَبَليَّةِ، الَّتي تُؤَجِّجُ التَّوَتُّراتِ بَيْنَ قُواتِ حفتر وَحُكومَةِ الوَحْدَة.

وانْعَكَسَ الفَشَلُ السِّياسيُّ في ليبْيا على الجَنوبِ، وَسْطَ المَخاطِرِ الَّتي تَفْرِضُها الحَرْبُ الأَهْلِيَّةُ في السّودانِ، حَيْثُ اِعْتادَ حفتر في السّابِقِ دَعْمَ ميليشْياتِ "الدَّعْمِ السَّرِيعِ" في المُثَلَّثِ الحُدودِيِّ بَيْنَ ليبْيا والسّودان ومصر، مِمّا ساهَمَ في سَيْطَرَتِهَا على نِقاطٍ حُدودِيَّةٍ رَئِيسِيَّةٍ في يُونْيو/حُزَيْرانَ المَاضي.

وَيُواجِهُ الدبيبة صُعوبَةً في مُواجَهَةِ هَذا التَّدَفُّقِ، مِمّا يُعَزِّزُ التَّوَتُّراتِ الإِقْليميَّةَ وَيُهَدِّدُ الاِسْتِقْرارَ في تشاد وَمِصر.

اِنْعِكاساتٌ إِقْليميَّةٌ وَمَخاوِفُ التَّصْعِيد

وَفيما تَسْعَى اللّعْبَةُ الطَّوِيلَةُ لِحفتر إلى السَّيْطَرَةِ على طَرابُلُسَ عَبْرَ التَّفاوُضِ أَوِ الإِكْراهِ، تَتَجَدَّدُ المَخاوِفُ مِنْ مُحاوَلَةِ روسيا عَبْرَ مَجْمُوعَاتِ "فَاغْنِر" السابِقَةِ وَشَرِكاتِها الأَمْنِيَّةِ إِعادَةَ تَمَوْضُعِها في الجَنوبِ، بِما يَضْمَنُ لَها نُفوذًا في عُمْقِ الساحِلِ الأَفْريقيِّ، مُقابِلَ حُضورٍ تُرْكِيٍّ مُتَزايِدٍ في الغَرْبِ لِدَعْمِ حُكومَةِ الدبيبة.

وَوَسْطَ تَحْذيراتٍ مِنْ أَنَّ ليبْيا "على حافَّةِ قِتالٍ إِضافيّ"، يَبْدو الصِّراعُ في الجَنوبِ مُقَدِّمَةً لِإِعادَةِ تَوْزيعِ مَوازينِ القُوَى قَبْلَ أَيِّ اِسْتِحْقاقٍ اِنْتِخابِيٍّ مُقْبِل.

وَيَسْعَى حفتر لِتَوْرِيثِ القِيادَةِ لِصَدّام وَرِيثِهِ المُحْتَمَلِ وَتَرْسيخِ نُفوذِهِ عَبْرَ التَّنْمِيَةِ بِاِسْتِخْدامِ وَرَقَةِ الجَنوبِ، فيمَا يُوَسِّعُ الدبيبة مَجالَ تَحَرُّكِهِ المَيْدانيِّ لِضَمانِ بَقائِهِ في المَشْهَدِ السِّياسيِّ، لَكِنَّ غِيابَ التَّوافُقِ الوَطَنيِّ قَدْ يُحَوِّلُ الجَنوبَ إلى شَرارَةِ مُواجَهَةٍ جَديدَةٍ تُعيدُ البِلادَ إلى مُرَبَّعِ الاِنْقِسامِ، وَتُهَدِّدُ أَيَّ تَسْوِيَةٍ سياسيَّةٍ مُحْتَمَلَة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن