فلسطين... القضية والبوصلة

مَصائِرُ مَنْ لا يملِكونَ وَمَنْ لا يستَحِقّون!

مِئَةٌ وَثَمانِيَةُ أَعْوامٍ مَرَّتْ هَذا الشَّهْرَ على بَدْءِ أكبرِ جريمةٍ إِمْبِرْيالِيَّةٍ (مُسْتَمِرَّةٍ حَتّى السّاعَةِ) فِي تاريخِ البَشَرِيَّةِ، تِلْكَ الَّتي سَجَّلَها التاريخُ بِوَصْفِها رِسالَةَ "وَعْدٍ" تَعَهَّدَتْ فِيها حُكومَةُ بِريطانيا العُظْمى وَقْتَها "النَّظَرَ بِعَيْنِ العَطْفِ" لِلْمَشْروعِ الصُّهْيونيِّ الَّذي يَسْتَهْدِفُ سَرِقَةَ فِلَسْطينَ من شَعْبِها وإِقامَةَ "وَطَنٍ" لِشُذّاذِ آفاقٍ جُلِبُوا بَعْدَ ذَلِكَ من أَرْبَعَةِ أَرْكانِ الدُّنْيا، لِيَسْتَوْطِنوا وَطَنًا لا يَعْرِفونَهُ وَبُيوتًا لَمْ يَرَوْها وَبَياراتٍ لَمْ تَطَأْها أَقْدامُهُمْ أَبَدا... مع العِلْمِ أَنَّ عَدَدَ اليَهودِ فِي فِلَسْطينَ وَقْتَها، نُوفَمْبِر/تِشْرينَ الثّاني 1917، لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ (في أَقْصى التَّقْديرات) عَنْ 3 إلى 5% فقط من إِجْماليِّ السُّكّانِ العَرَبِ وَقْتَها.

مَصائِرُ مَنْ لا يملِكونَ وَمَنْ لا يستَحِقّون!

كانَتِ اِتِّصالاتٌ وَمُشاوَراتٌ كَثيرَةٌ قَدْ أَجْرَتْها حُكومَةُ لَنْدَن قَبْلَ "الوَعْدِ" المَشْؤومِ مع قادَةٍ صُهْيونِيّينَ كِبارٍ من بَيْنِهِمْ "روتْشيلْد"، طَلَبوا خِلالَها جَميعًا وَبِإِلْحاحٍ من بِريطانيا بِوَصْفِها الإِمْبِرْيالِيَّةَ الاِسْتِعْمارِيَّةَ الأَكْبَرَ آنَذاكَ، أَنْ تَجْهَرَ عَلَنًا وَرَسْمِيًّا بِدَعْمِ المَشْروعِ الصُّهْيونيِّ الَّذي قَدَّموهُ لِلْعالَمِ الغَرْبيِّ، بِاِعْتِبارِهِ يُحَقِّقُ هَدَفًا مُزْدَوَجًا لِلْقُوى الاِسْتِعْمارِيَّةِ؛ فَهُوَ من جانِبٍ يُمَثِّلُ حَلًّا لِمُشْكِلَةِ ما كانَ يُعْرَفُ فِي أوروبا آنَذاكَ بِـ"المَسْأَلَةِ اليَهودِيَّةِ"، والمَقْصودُ بِها كَيْفِيَّةُ الخَلاصِ من مَلايينِ اليَهودِ المَكْروهينَ والمُنْتَشِرينَ في البُلْدانِ الأوروبِيَّةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لا يَخْلُو من عُنْصُرِيَّةٍ فَجَّةٍ وَبَغِيضَة.

أَمّا الجانِبُ الثَّاني والأَهَمُّ فِي الوَعْدِ فَهُوَ خَلْقُ كِيانٍ غَرْبيٍّ مَصْنوعٍ إِمْبِرْيالِيًّا من شَأْنِهِ قَطْعُ التَّواصُلِ الجُغْرافيِّ والدّيموغْرافيِّ بَيْنَ شَرْقِ الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ وَغَرْبِها لِتَحْقيقِ هَدَفٍ إِمْبِرْياليٍّ قَديمٍ، بِحَيْثُ يُُمْنَحُ هَذا الكِيانُ المَرْكَزَ الاِسْتِعْمارِيَّ القُدْرَةَ دائِمًا على اِسْتِخْدامِهِ كَأَداةِ تَخْريبٍ وَقَمْعٍ من شَأْنِها سَحْقُ أَيِّ مَشْروعٍ تَحَرُّريٍّ عَرَبيٍّ يَسْعى لِلتَّقَدُّمِ والنُّهوضِ، وَكَذَلِكَ الحَيْلولَةُ دونَ الاِنْعِتاقِ مِنَ الهَيْمَنَةِ الاِسْتِعْمارِيَّةِ وَمُحاوَلَةِ الخَلاصِ نِهائِيًّا من سِجْنِ التَّخَلُّفِ والتَأَخُّرِ الَّذي لَطالَما فَرَضَهُ الاِسْتِعْمارُ على شُعوبِ الأُمَّةِ وَمُجْتَمعاتِها.

الكيان الصهيوني تطوّر على مدى العقود إلى وضع إجرامي لا يكاد يكون له مثيل في التاريخ الإنساني الحديث

في هَذا السِّياقِ، وَتَأْكِيدًا على حَقيقَةِ الطَّابَعِ الإِمْبِرْياليِّ الشَّامِلِ لِوَعْدِ "بَلْفور"، فَإِنَّ الجَديرَ بِالذِّكْرِ الإِشارَةَ إلى مُشاوَراتٍ مُكَثَّفَةٍ أَجْرَتْها الحُكومَةُ البِريطانِيَّةُ مع عَديدِ حُكوماتِ البُلْدانِ الغَرْبِيَّةِ بِشَأْنِ هَذا الوَعْدِ وَصِياغَتِهِ، وَلَمْ تُصْدِرْهُ لَنْدَن إِلّا بَعْدَ حُصولِها على مُبارَكَةِ وَمُوافَقَةِ هَذِهِ الحُكوماتِ وإظْهارِها جَميعًا، لا سِيَّما الوِلاياتُ المُتَّحِدَةُ الأَميرْكِيَّةُ وَفَرَنْسا، قَدْرًا هائِلًا مِنَ الحَماسَةِ لَه.

طَبْعًا كُلُّنا يَعْرِفُ الآنَ، كَيْفَ انْفَتَحَ بابُ الهِجْرَةِ واسِعًا بَعْدَ هَذا الوَعْدِ البِريطانِيِّ أَمامَ جَحافِلِ اليَهودِ، لَكِنَّ أَغْلَبِيَّتَهُمْ تَمَّ خِداعُهُمْ وَتَزْيِيفُ وَعْيِهِمْ بِأَساطِيرَ وَخُزَعْبَلاتٍ تَوْراتِيَّةٍ، لَمْ يَكُنْ عُتاةُ الصَّهايِنَةِ الأَوائِلِ وَكِبارُ قادَةِ الحَرَكَةِ النّاشِئَةِ أَنْفُسُهُمْ، يُؤْمِنونَ بِها وَلا بِاليَهودِيَّةِ كَدِينٍ أَصْلًا، لَكِنَّهُمُ اتَّخَذوا من كُلِّ أَساطِيرِهِ الخُرافِيَّةِ ذَريعَةً وأساسًا لِإِيديولوجِيَّتِهِمْ شَديدَةِ العُنْصُرِيَّةِ والعُدْوانِيَّةِ والشُّذُوذ.

نَعْرِفُ الآنَ أَنَّهُ بَعْدَ عُقودٍ قَليلَةٍ من "وَعْدِ بلْفور" وَتحت إِلْحاحِ الدِّعايَةِ الصُّهْيونِيَّةِ شَديدَةِ الضَّجيجِ والاِتِّساعِ فِي أَوْساطِ يَهودِ العالَمِ، تَدَفَّقَتْ إلى فِلَسْطِينَ جَحافِلُ من يَهودِ أوروبا بِالذّاتِ هارِبينَ من جَحيمِ الجَرائِمِ الرَّهيبَةِ الَّتي اُرْتُكِبَتْ بِحَقِّهِمْ (مع أَجْناسٍ وأعْراقٍ أُخْرى) خِلالَ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثّانِيَةِ على يَدِ النِّظامِ النّازيِّ في أَلْمانيا.

ومع ذَلِكَ، وعلى الرَّغْمِ من مَوْجاتِ الهِجْرَةِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ الكَبيرَةِ الَّتي تَدَفَّقَتْ إلى أَرْضِ فِلَسْطِينَ تَحْتَ حِمايَةِ القُوّاتِ البِريطانِيَّةِ المُتَواجِدَةِ هُناكَ آنَذاكَ، بَقِيَتِ الأَغْلَبِيَّةُ السّاحِقَةُ من سُكّانِ فِلَسْطِينَ لِلسُّكّانِ العَرَبِ أُصْحابِ الأَرْضِ الأَصْلِيِّينَ، وَلَمْ يَزِدْ عَدَدُ اليَهودِ، عَشِيَّةَ إِعْلانِ تأسيسِ الدَّوْلَةِ الصُّهْيونِيَّة، على ما نِسْبَتُهُ 31% فَقَطْ مِنَ السُّكّانِ، فِيما بَقِيَتِ النِّسْبَةُ الباقِيَةُ لِلْمُواطِنينَ العَرَبِ الفِلَسْطِينِيّين.

لَكِنْ بِسَبَبِ الدَّعْمِ الإِمْبِرْياليِّ القَويِّ لِلصَّهايِنَةِ، فَضْلًا عَنْ جَرائِمِ الإِرْهابِ والإِبادَةِ الَّتي اِرْتَكَبَتْها عِصَاباتٌ صُهْيونِيَّةٌ مُسَلَّحَةٌ مِثْلُ عِصابَةِ "شْتيرْنِ" و"هاغاناهِ" وَغَيْرِها، اسْتَوْلى الكِيانُ العُنْصُرِيُّ اللَّقيطُ عِنْدَ تأسيسِهِ عامَ 1948، على أَكْثَرَ من 77% من أَرْضِ فِلَسْطِينَ، ثُمَّ اسْتَوْلى بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَعْقابِ حَرْبِ 1967 على ما تَبَقَّى منها، بِالْإِضافَةِ لِأَراضي من ثَلاثَةِ بُلْدانٍ عَرَبِيَّةٍ أُخْرى.

غَيْرَ أَنَّ حالَ الكِيانِ الصُّهْيونيِّ نَراهُ الآنَ وَقَدْ تَطَوَّرَ وانْزَلَقَ رُوَيْدًا رُوَيْدًا على مَدى السَّنَواتِ والعُقودِ الَّتي مَرَّتْ مُنْذُ تأسيسِهِ، إلى وَضْعٍ إِجْرامِيٍّ لا يَكادُ يَكونُ لَهُ مثيل أَوْ شَيه فِي التاريخِ الإِنْسانيِّ الحَديثِ على الأَقَلّ. إِذْ إِنَّ تَشْييدَ صَرْحٍ بنيانهُ على الجَريمَةِ والعُنْفِ والعُنْصُرِيَّةِ، بَقِيَتْ كُلُّها تَعْتَمِلُ وَتَتَفاقَمُ دَاخِلَ بُنْيانِهِ حَتَّى صارَ كِيانًا وَمُجْتَمَعًا شائِهًا مُتَوَحِّشًا وَتَجْسيدًا سِياسِيًّا لِتَعْبيرِ "دِيسْتوبِيا" الشّائِعِ فِي النَّقْدِ الأَدَبيِّ بِمَعْنى الجَماعَةِ الفاسِدَة.

لَكِنَّ هَذِهِ الطَّبيعَةَ بَالِغَةَ الشُّذوذِ والوَحْشِيَّةِ الواصِلَةِ حَدَّ الجُنونِ، لَمْ تَحْمِهِ مِنَ التَّدَهْوُرِ الشَّديدِ، بَلْ حَدَثَ العَكْسُ تَمامًا خُصوصًا بَعْدَ حَرْبِ الإِبادَةِ الرَّهيبَةِ الَّتي شَنَّها بِجُنونٍ وَحْشيٍّ فِي غَزَّةَ وَفِلَسْطينَ كُلِّها.

فوز زهران ممداني دليلٌ على أنّ إرهاصات التّغيير الثوري بدأت وسيكون الكيان الصهيوني العنصري أوّل ضحاياها

لَقَدْ أَضْحى هَذا الكِيانُ المَصْنوعُ إِمْبِرْيالِيًّا غَارِقًا فِي طَبيعَتِهِ العُنْصُرِيَّةِ حَتَّى الأُذُنَيْنِ، وَفِي اللَّحْظَةِ الحالِيَةِ مِنَ التاريخِ يَبْدو مُنْدَفِعًا بِسُرْعَةٍ على الطَّريقِ الطَّويلِ لِنِهايَتِهِ المَحْتومَةِ وَتَفَكُّكِ أَساسِهِ العُنْصُريِّ العَفِن. آيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ في مُجْتَمعاتِ الغَرْبِ نَفْسِها حَيْثُ المَراكِزُ الإِمْبِرْيالِيَّةُ، تَنْمُو ثَوْرَةٌ شَعْبِيَّةٌ حَقيقِيَّةٌ قِوامُها مَلايِينُ البَشَرِ خُصوصًا مِنَ الأَجْيالِ الجَديدَةِ المُتَعَلِّمَةِ، بَيْنَما واحِدٌ من أَهَمِّ وأوَّلِ شِعاراتِ هَذِهِ الثَّوْرَةِ وأبْرَزِ أَهْدافِها "التَّضامُنُ مع شَعْبِ فِلَسْطِينَ" وَرَفْضُ سِياساتِ الاِنْحِيازِ السّافِرِ والدَّعْمِ اللّامَحْدودِ لِكِيانٍ مُجْرِمٍ اِسْتَقَرَّ فِي الوَعْيِ والضَّمِيرِ الإِنْسانيِّ العامِّ، كَيْفَ أَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ وَمُجْرِمٌ وَعُنْصُرِيّ.

لَقَدْ بَدَأَ فِعْلًا طَريقُ الخَلاصِ من نَكْبَتِنَا... وَلَعَلَّ النَّجاحَ الكَبيرَ والمُدَوِّيَ لِشابٍّ أَميركيٍّ تَقَدُّميٍّ اِسْمُهُ زُهْران مَمْداني وَفَوْزَهُ السّاحِق مُؤَخَّرًا بِعُمودِيَّةِ أَهَمِّ وأَخْطَرِ مُدُنِ أَميرْكا نيويورْك، لَهُوَ دَليلٌ لا تُخْطِئُهُ عَيْنٌ على أَنَّ إِرْهاصاتِ التَّغْييرِ الثَّوْريِّ بَدَأَتْ فِعْلًا وَسَيَكونُ الكِيانُ الصُّهْيونيُّ العُنْصُرِيُّ أَوَّلَ ضَحاياها... وإنْ طالَ الزَّمَنُ قَلِيلا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن