بعد الحرب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة وجرائم الإبادة الجماعية التي قامت بها، والمحاولات اليائسة لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، بعد هذه الحرب المدمرة التي خلفت نحو ربع مليون بين شهيد وجريح ومفقود من أبناء الشعب الفلسطيني، بدأ الحديث عن السلام ليس في غزة وحدها وإنما في المنطقة كلها، بواسطة الخطة التي أعدها مطبخ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لقد استطاع الرئيس الأمريكي أن يوقف الحرب، ولم لا، وبلاده هي التي تقدم السلاح لإسرائيل وتوفر لها الغطاء السياسي لممارسة ما يحلو لها من جرائم، بل ويدعم سياسة الاحتلال التوسعية، كما ظهر جلياً عندما دعا صراحة إلى توسيع مساحة إسرائيل، لأنها تبدو في نظره صغيرة مقارنة بدول أخرى في المنطقة، في محاولة لفرض أمر واقع جديد، بدأت ترجمته بشكل فعلي على الأرض باحتلال مساحات واسعة من الأراضي السورية بعد سقوط النظام السوري السابق مباشرة، والترويج لاتفاق سوري إسرائيلي، رغم التوسع الإسرائيلي واستمرار الاعتداءات شبه اليومية على سوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية.
ففي قطاع غزة تمضي على قدم وساق محاولات انتشال ما تبقى من جثث الأسرى الإسرائيليين، التزاماً من المقاومة الفلسطينية بالاتفاق الذي أوقف الحرب شكلياً، ولكنه لم يوقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية، فالقصف يستمر على القطاع وعمليات النسف تستمر، ولا تزال المساعدات الإنسانية تسير بما تريده إسرائيل وما تحدده، كما يستمر الحصار على القطاع فيما يستمر سقوط الشهداء بنيران الاحتلال الإسرائيلي، حيث بلغ عدد الشهداء منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 11 تشرين الأول/ أكتوبر إلى 260 شهيداً إلى جانب أكثر من 600 جريح.
أما في لبنان فحدّث ولا حرج، حيث تتواصل الغارات شبه اليومية على العديد من المناطق اللبنانية بذريعة استهداف مواقع مفترضة لحزب الله، إذ تشير بعض التقارير والإحصائيات الإخبارية إلى أن عدد ضحايا الاعتداءات الإسرائيلية يقارب 250 ضحية، ومئات الجرحى منذ سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل، والذي انتهكته قوات الاحتلال أكثر من أربعة آلاف وثلاثمئة مرة.
كل هذا يجري والخطاب الأمريكي يتحدث عن السلام الموعود الذي يبشر به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي سيحول مسار التاريخ، ويحيل المنطقة البائسة الغارقة في النزاعات والدماء إلى واحات من الجمال ومشاريع استثمارية هائلة لن تحيل قطاع غزة وحده إلى ريفيرا، وإنما المنطقة بأسرها. ومع أن السلام يبدو مطلباً لدى كل أبناء المنطقة العربية التي اكتوت بنيران الحروب والمؤامرات، لكن كل من يتمعن في مجريات الأمور ويعرف بوضوح حقيقة الصراع في المنطقة، لا سيما الفلسطيني الإسرائيلي، وتفرعاته المعروفة يدرك من دون عناء أن ما يجري من حديث عن السلام ووقف الحرب ليس إلا مسرحيات فاشلة لن تنتهي بالسلام، وإنما قد تكون مجرد هدن فرضتها الظروف والحسابات الدولية، ورغبة واشنطن في تنظيف صورة إسرائيل في العالم بعد حرب الإبادة الجماعية التي شنتها على الشعب الفلسطيني.
وإن هذه الهدن لن تطول سواء في قطاع غزة أو في لبنان لا سيما أن كل ما تقوم به قوات الاحتلال لا يشير أبداً إلى أدنى رغبة في السلام، وإنما إلى استعدادات لحرب تبدو مقبلة لا محالة، والدليل على ذلك إصرار إسرائيل على وجود قواتها في قطاع غزة، وبناء جدار خرساني في عمق الأراضي اللبنانية مقابل بلدتي مارون الراس وعيترون، بحجة تعزيز عمليات الدفاع، على حد زعم المسؤولين الإسرائيليين، ناهيك عن احتلالها مساحات واسعة من الأراضي السورية.
الصراع في المنطقة ليس وليد الأمس، وإنما يفوق عمره المئة عام على الأقل، فهل تستطيع خطة ترامب معالجة كل الجراح والمآسي التي خلفها؟ إنه سؤال يبدو ساذجاً إذا ما تعمقنا في تفاصيل هذا الصراع وتداعياته الجيوسياسية ليس في فلسطين وحدها وإنما على المنطقة كلها، وقادم الأيام وحده الكفيل بالإجابة عن هذا التساؤل.
(الخليج الإماراتية)

