بدايةً، ربما كان علينا (عربيًا) أن ندرك أنّ المبالغة في الاحتفاء (عربيًا) بما جرى في جوهانسبرج، لا يعادله سوى التهوين (عربيًا) بما جرى في نيودلهي. فكما أنّ "التفكير بالتمني" لا يقوى بذاته على أن يأتي بالمأمول إلى أرض الواقع، فكذلك الـ "Denial" لا يغيَر أبدًا من الحقائق على هذه الأرض.
من التبسيط القول بأنّ ما جرى في نيودلهي يلغي أهمّية ما جرى في جوهانسبرج، ولكنه ببساطة يضعه في حجمه
في جوهانسبرج كان ناريندرا مودي؛ الزعيم الهندي المتباهي بعنصريّته يتصدّر الصورة مصفّقًا للكلمة المتلفزة لفلاديمير بوتين؛ الرئيس الروسي المطلوب من البوليس الدولي.
وفي نيودلهي. وبعد أسبوعين فقط كان ناريندرا مودي (ذاته) يتصدّر الصورة بحوار جو بايدن؛ الأمريكي هذه المرة، ليعلن عن الممرّ الاستراتيجي الذي لا يستهدف (فضلًا عن وضع الأساس الرأسمالي لشرق أوسط جديد) غير منافسة "طريق الحرير" الذي ترتكز إليه الصين زميل الهند في زعامة مجموعة "بريكس".
في عالم لم تعد تعقيداته تسمح بالمعادلات الصفرية، سيكون من التبسيط المخل بالتأكيد أن نقفز إلى القول بأنّ ما جرى في نيودلهي يلغي أهمّية ما جرى في جوهانسبرج، ولكنه ببساطة يضعه في حجمه. فتوسيع عضوية المجموعة بضم دول بعضها عربي، لا يعني أبدًا أنّ التجمّع (الذي لا يحمل سوى اسم مؤسسيه) أصبح أكثر قوة، أو أنه إعلان لنهاية الهيمنة الأمريكية أو حتى مكانة الدولار كما راج في (بعض) إعلامنا العربي، فالتناقضات بين مصر وإثيوبيا لا تقلّ عن حالها بين القاهرة والرياض. ولا ما بين المملكة والإمارات.. وهي دول أربعة على قائمة من ستّ دول فقط أُعلن عن ضمّها للمجموعة، ونتائج قرار الضمّ هذا كما أسبابه لا علاقة لها البتة بما جرى ترويجه (إعلاميًا) في الدول العربية ذات العلاقة. بالضبط كما أنّ دعوة هذا أو ذاك لحضور قمة الدول (الكبرى) في نيودلهي، لا تعني على الإطلاق أنها دولة كبرى، فموريشيوس التي لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة على خارطة العالم وُجّهت لها الدعوة أيضًا. وكانت من الحاضرين.
أيًا ما كان أمر البروباجندا العربية، عديمة التأثير كعادتها، فالحاصل، والمؤثّر أنّ في جوهانسبرج، كما في نيودلهي كانت السياسة حاضرة قبل الاقتصاد.
فرغم أن "مجموعة العشرين"، بالتعريف مجموعة اقتصادية، تشكّلت أصلًا كمنتدى لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية "لمناقشة القضايا الاقتصادية والمالية العالمية"، إلا أنّ السياسة، في قمّتها (الهندية) الأخيرة كانت حاضرةً بامتياز: حربًا تعاند السلام في أوكرانيا، ومحاولات لاستدعاء سلام (لم تحضر شروطه) في الشرق الأوسط.
لم يرِد ذكر إسرائيل صراحةً في مذكرة التفاهم التي جرى الإعلان عنها لإنشاء ممر "استراتيجي" يربط الهند بأوروبا عابرًا "الشرق الأوسط"، إلا أنّ احتفاءً إسرائيليًا معلنًا بالنتائج "الاستراتيجية" للممر المزمع، والمسمّى اختصارًا IMEC لا يمكن إلا أن يؤخذ في الحسبان.
مشروع نيودلهي ترجمة لرؤية بيريز للشرق الأوسط الجديد، الذي يحلّ فيه السلام "الاقتصادي" محلّ سلام "الحقوق"
قد لا تقطع اتفاقات نيودلهي، "طريق الحرير" الصيني BRI كما قالت يومها تصريحات الحاضرين "الدبلوماسية"، ولكن الخشية، كل الخشية أن تقطع الطريق على سلام شرق أوسطي (عادل) يقوم على ما ظنناه ثوابت عربية لخّصتها مبادرة السلام العربية (بيروت: 2002) والتي ظلّت لعقدين من الزمان شرطًا، إن لم يكن عربيًا، فعلى الأقل سعوديًا للسلام العادل، الذي بدونه لا مجال للتطبيع (العربي) مع دولة تحتل أراضي (عربية).
رغم أثره المفترض (أو المؤكّد) على اقتصادياتها، ومكانتها، فلستُ مع القائلين بأنّ المشروع يستهدف "قناة السويس"؛ العنوان الراسخ في أدبيات التحرّر العربي من الاستعمار، فهذا زمان مضى بأصحابه، وأدبياته، ولا أظنّ أنّ أحدًا من "الفاعلين/المؤثّرين" الموقّعين على مذكرة التفاهم تلك تشغله أصلًا قناة السويس، ولا أصحابها. "الهدف" الحقيقي والواضح وضوح الشمس في خطاب ألقاه بنيامين نتنياهو عشية توقيع مذكرة التفاهم، هو ببساطة رسم خرائط جديدة "لشرقنا" الأوسطي، يكون لإسرائيل فيها مكانة المركز.
صحيحٌ أنّ المشروع "الاستراتيجي" المعلن عنه في نيودلهي أكبر بكثير من مشروع قناة البحر الميت، الذي كان ضمن أحلام تيودور هيرتزل؛ مؤسّس الحركة الصهيونية وعقلها المفكّر، ولكنه "شرق أوسطيًا" يكاد أن يكون ترجمة معاصرة لرؤية شيمون بيريز (القديمة) للشرق الأوسط (الجديد)، والذي يحلّ فيه السلام "الاقتصادي"؛ القائم على المنفعة محل سلام "الحقوق" القائم على العدل.
لم يتردّد الإسرائيليون أبدًا في التعبير (علنًا) عن حلمهم بشرق أوسط يشبه شركة، يتولون إدارتها "تقنيًا"، برأس مال خليجي وفير، وعمالة مصرية فلسطينية رخيصة، شرق أوسط يضمنون فيه هيمنتهم، وليس فقط أمنهم الذي عرفوا أنهم لن يدركوه أبدًا طالما بقي على الأرض فلسطينيون يقاومون. أعيدوا من فضلكم قراءة كتاب شيمون بيريز الشهير The New Middle East والذي تصادف أن تزامن صدوره مع اتفاقات أوسلو (1993) والتي كانت تنصّ (أكرّر: تنصّ) على "الوصول إلى تسوية دائمة بناءً على قراري الأمم المتحدة 242 و338" في فترة أقصاها خمس سنوات من التوقيع.
أتُدركون كم مضى من الوقت على هذه "التسوية الدائمة" التي لم تأتِ أبدا؟ ربع قرن بالتمام والكمال.
أعرف أنّ لصانع القرار في المملكة (في عهدها الجديد) حساباته الداخلية والخارجية، إلا أنّ تمسّكه حتى الآن "بمبادرة الملك عبد الله"، جعل من السعودية بمكانتها، الدينية، والعربية، والجيوسياسية حائط الصدّ الأخير ضد المحاولة الإسرائيلية لفرض "الصفقة الترامبية/الإبراهامية"، التي من شأنها لو اكتملت أن تقضي نهائيًا على فرصة السلام (العادل) في منطقتنا تلك. ورغم ما يبدو من رعاية أمريكية غير خافية للمشروع الاستراتيجي، إلا أنني أحسب أنّ واشنطن، مثلها مثل كافة الموقّعين الثمانية على مذكرة التفاهم تدرك تمام الإدراك أنّ العقبة الكؤود لن تكون في الرياض، وإنما في عقلية اليمين الإسرائيلي الحاكم، والذي لن يقبل أن يدفع الثمن.
في عالم اليوم حلّت "الحروب الاقتصادية" محلّ المقاتلات والمدافع
… وبعد، فَلَسْنا بهذا الكلام كارهين للرخاء، أو أسرى لشعارات قديمة عفى عليها الزمن، كما نسمع من بعض (أشقائنا العرب)، كما أننا بتخوّفاتنا تلك لسنا دعاة حرب، كما قد يقول البعض، بل دعاة سلام نعرف بالتجربة وقراءة التاريخ أنه لن يكون حقيقيًا يكفل الاستقرار والازدهار (الذي يطلبون) إلا إذا كان قائمًا على العدل وإحقاق الحقوق.
ربما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على حقّ (على غير عادته) حينما ذكّر المجتمعين في الهند بأنّ "مجموعة العشرين اقتصادية بالأساس.. ولا ينبغي آن تكون ميدانًا للنقاشات السياسية"، ولكن في عالم اليوم، الذي حلت فيه "الحروب الاقتصادية" محلّ المقاتلات والمدافع، لا أحد بوسعه أن يتجاهل دلالات ونتائج ما جرى في نيودلهي. خاصة حين تكون إسرائيل، كما السياسة حاضرةً، ولو دون مقعد أو عَلَم.
(خاص "عروبة 22")