نعم؛ كان فنانًا مزاجيًا، كرّس حياته بأسرها للنغم، لكنه لم يكن عشوائيًا ولا بوهيميًا كما يحلو للبعض تصوّره، فقد كان صاحب مشروعات متسارعة وطموحات كبرى لم يمهله القدر لإنجازها، والبرهان على ذلك إنتاجه الغزير من كل صور اللحن والغناء في أقلّ من 14 عامًا.
شأنه شأن الموسيقيين العظماء؛ تطوّر درويش على مستوى وضع الألحان واختيار الموضوعات والقوالب الغنائية، فبدأ مع فرقة أمين عطا الله محاولًا محاكاة المطربين الأنجح مطلع القرن العشرين وعلى رأسهم الشيخ سلامة حجازي، الذي كانت معظم أعماله عبارة عن قصائد باللغة العربية الفصحى، كتبها شعراء متوسطو المستوى خصيصًا للأعمال المسرحية المعرّبة التي كان يقدّمها حجازي، مثل: إن كنت في الجيش (مسرحية صلاح الدين) وسلي النجوم يا شارلوت (مسرحية ضحية الغواية)، أو قصائده المرسلة مثل: أتيت فألفيتها ساهرة للشاعر طانيوس عبده، وويلاه ما حيلتي، وسلام على حُسنٍ، والتي كان ينشدها بين فصول المسرحيات وقبلها بطريقة أقرب إلى الترتيل.
وبالعربية الفصحى أيضًا، ومن خلال قصائد قديمة خالصة أو معدّلة، غنّى المطربون غير المسرحيين مثل عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وأبو العلا محمد. إلا أنّ سيّد درويش خالف هذا الاتجاه في الاعتماد على الشعر العمودي، مفسحًا المجال لنخبة جديدة من كُتّاب الأزجال المصريين الذين وجدوا لديه ضالتهم من الذيوع والتحقّق، كما أنه توسّع في الاعتماد على لغة وسطى بين الفصحى والعامية، يمكن وصفها بأنها "عامية فصيحة أو راقية" كما جاء في النشيد الوطني المصري الحالي "بلادي بلادي" للشاعر يونس القاضي.
في سنوات نشاطه الأولى؛ اقتصرت علاقة درويش بالفصحى على الموشحات الموروثة والمحاكية للقديم والتي قارب عددها الأربعين، إلى جانب خمس أغنيات من نوع "السلامات" والتي لحّنها لفرقة الأخوين عطا الله، وكان هذا اللون عبارة عن غناء جماعي قبل المسرحية أو الأوبريت وبعدهما، ويتضمّن غالبًا توجيه التحية للحاكم، فكان من بين ما لحّنه منها أبيات تهتف بحياة السلطان العثماني محمد الخامس رشاد.
أمّا أوّل قصيدة متكاملة مسرحية الطابع لحّنها درويش، فكانت "إن هذا اليوم إن صح المقال" بمسرحية "أوديب" التي قدّمها جورج أبيض لأوّل مرة عام 1912 وقد تأثّر فيها بأعمال سلامة حجازي.
هجر درويش بعدها هذا القالب ست سنوات، حتى عاد إليه بمسرحية "الهواري" عام 1918 فلحّن فيها 6 قصائد غنّاها تلميذه المخلص حامد مرسي، ثم قدّم عام 1921 ألحانَ مسرحية "عبد الرحمن الناصر" لفرقة عكاشة متضمّنة 7 قصائد أدّاها زكي عكاشة وجوقته، قبل أن يعود للقصائد في عامه الأخير 1923 بتقديم 7 ألحان بمسرحية "الدرة اليتيمة" وأدّتها النجمة الصاعدة فاطمة سري.
ولا يكاد يذكر هواة الطرب أيًا من تلك الألحان، التي ولدت لغرض محدّد تمامًا، هو إحكام الدراما المسرحية وفقًا للأعراف السائدة آنذاك، المفضّلة لاستخدام اللغة العربية الفصحى في الروايات ذات الأحداث التاريخية أو التي تجري وقائعها على أرض غير عربية بصرف النظر عن زمنها، مما تسبّب في عدم شهرة تلك الألحان ولا نجاحها، قياسًا بألحان مسرحية أخرى للشيخ سيّد ما زالت تحظى بالاهتمام وتدهش الآذان.
العامية لغة حماسية... لأوّل مرّة
وبينما انغمس صاحب "أنا هويت" و"ياللي قوامك يعجبني" في إنتاج مئات الأدوار والطقاطيق في سنواته الذهبية بعد انتقاله إلى القاهرة عام 1917 وفي غضون ثورة 1919، بات مهمومًا بالبحث عن الكلمة العامية الطازجة، فيما بدا انعكاسًا لصعود موجة الوطنية المصرية في أعقاب الحرب العالمية الأولى التي مهّدت لانهيار الدولة العثمانية، وتراجع شعبية دعاة إحياء الخلافة الإسلامية.
هنا بدأ درويش ينتج بكثافة أناشيد وطنية بالعامية المصرية، ويتعمّد إدخالها إلى المسرحية والأوبريت لضمان انتشارها وأدائها مرارًا في المسارح والملاهي، وكانت المفاجأة أنّ عامية بديع خيري وبيرم التونسي ويونس القاضي ومصطفى ممتاز استطاعت التعبير عن المشاعر الوطنية بحماسة وعاطفة متوهجة وبيسر أيضًا، ربما بصورة أكبر من بعض القصائد الملحمية بالفصحى، وإن لم تخلُ تمامًا من تأثيرات الفصحى بحثًا عن الجلال.
ولا أدلّ على ذلك من أنّ معظم تلك الأناشيد ما زالت حيّة في ذاكرة المصريين، مثل: "قوم يا مصري"، "أحسن جيوش في الأمم جيوشنا"، "دقّت طبول الحرب يا خيّالة"، "أنا المصري كريم العنصرين"، "يا مصر يحميكي لأهلك"، "بلادي بلادي"، وكان آخر هذه السلسلة المجيدة نشيد ألّفه بنفسه هو: "فليعش وطننا وحدته أملنا" الشهير لدى كثيرين بـ"مصرنا وطننا سعدها أملنا" وقد غنّاه محمد بخيت قبيل وفاة سيّد درويش أو عقبها مباشرةً على أسطوانة وليس في مسرحية "كليوباترا ومارك أنطوان" كما كان مخططًا له.
فشل أهم قصيدة لحّنها
غير أنّ أهمّ نصّ بالفصحى لحّنه وغنّاه درويش لم ينل أيّ نصيب من الشهرة، وهو النشيد القومي "بني مصر مكانكمو تهيا: فهيا مهدوا للملك هيا" الذي وضعه أحمد شوقي بغية أن يصبح أوّل نشيد قومي رسمي لمصر عام 1920، لكن التوفيق لم يحالف أبدًا ما قرضه أمير الشعر ولحّنه أمير النغم.
ففي أواخر عام 1920 شُكلت لجنة ترقية الأغاني القومية وأعلنت مسابقة لكتابة نشيد قومي لمصر برعاية وزارة المعارف، على أن يكتسب الصفة الرسمية، فتقدّم 56 شاعرًا كان منهم أحمد شوقي بقصيدته المذكورة، وكان منافسه الأقوى مصطفى صادق الرافعي بقصيدة "اسلمي يا مصر"، وعلى الرغم من أنّ الأخير بدا أسهل حفظًا وأوضح معنًى وأقوَم بنيانًا، فإنّ اللجنة اختارت قصيدة شوقي، ووقع اختيارها على سيد درويش لتلحينها، لينشب سجال في الصحف بين أنصار شوقي وأنصار الرافعي لم ينتهِ إلا بإعلان دستور 1923 والتأكّد من عدم اختيار أيّ من القصيدتين كنشيد قومي رسمي، واستمرار مارش "سلام أفندينا" كسلام ملكي.
واستكمالًا لحظّ الفصحى القليل مع ألحان سيّد درويش، لم ينجح لحنه لقصيدة شوقي بمقام النهاوند، الذي غنّاه محمود مرسي وفرقة عكاشة، إذ افتقر إلى أهمّ ما ميّز أناشيده الأخرى من قصر ورشاقة الجملة وصرامتها الانطباعية، فضلًا عن أنّ أبيات شوقي كانت مكتظة بالمعاني الإنشائية والصور أكثر مما اعتاده الشيخ سيّد مع زجّاليه المفضّلين.
لكن تأثير فنان الشعب على القصيدة المغنّاة يتجاوز إنتاجه الشخصي منها، فنجده مضيئًا في أعمال محمد عبد الوهاب الذي بدأ حياته أيضًا بالقصائد مقلدًا سلامة حجازي في "ويلاه ما حيلتي، وأتيت فألفيتها ساهرة" ومستحضرًا أداءه المرسل واللحن الرتيب في أوّل قصيدة غنّاها من كلمات شوقي "قلب بوادي الحمى" عام 1924.
لكن عبد الوهاب ما لبث أن غيّر بوصلته مبتعدًا عن "الترتيل" معتنقًا "التعبير" بنفس سرعة ركضه منبهرًا – كما روى - عندما سمع بأذنيه سيّد درويش لأوّل مرّة وهو يغنّي "جدودي أنشأوا العلم العجيب: ومجرى النيل في الوادي الخصيب"، فنجده يستخدم نخبة من حيل "السيّد" بحلّة جديدة وبصورة أكثر تكثيفًا في ثلاث قصائد مهمّة قدّمها عامي 1927 و1928 "أنا أنطونيو، وخدعوها بقولهم حسناء" لشوقي و"على غصون البان" لأحمد رامي، قبل أن يثبت للجميع أنه الملك المتوّج القادم بـ"ردت الروح بالمضنى معك، وجارة الوادي".
(خاص "عروبة 22")