مَعَ تَطَوُّرِ تِكْنولوجْيا الحَرْب، فَقَدَتِ المُرْتَفَعاتُ كَثِيرًا مِنْ قيمَتِها الدِّفاعِيَّة، وَتَحَوَّلَتِ الحُدودُ إلى خُطوطِ تَماسٍ مَكْشوفَة، بَيْنَما أَصْبَحَ العُمْقُ الاسْتْراتيجِيُّ الخارِجِيُّ عِبْئًا يَسْتَنْزِفُ قُدُراتِ المَرْكَز. وَهَكَذا صارَ المَوْقِعُ سِلاحًا ذا حَدَّيْنِ: مَصْدَرَ قُوَّةٍ وَرَمْزَ اِنْكِشافٍ فِي الوَقْتِ ذاتِه.
التحوّل الاستراتيجي في إيران يبدأ من الداخل لا من الحدود
وَاليَوْمَ لَمْ تَعُدِ الجُغْرافْيا وَحْدَها قادِرَةً على مَنْعِ الحَرْب؛ بَلْ أَصْبَحَتِ القُدْرَةُ على التَّحَكُّمِ فِي بيئَتِها الجَديدَةِ ـ الصَّوارِيخِ الدَّقيقَة، شَبَكاتِ الدّْرون، وَالحُروبِ الرَّمادِيَّةِ العابِرَةِ لِلْحُدود ـ هِيَ التي تُحَدِّدُ ميزانَ الرَّدْع. وَمِنْ هَذا المَنْظور، يُرْغِمُ هَذا التَّحَوُّلُ إِيرانَ على إِعادَةِ تَعْريفِ نُفوذِها وَحُدودِ قُدْرَتِها، بَيْنَ مَرْكَزٍ مَأْزومٍ، وَجِوارٍ جِيوسِياسيٍّ مُكْلِفٍ، وَمُواجَهَةٍ مَفْتوحَةٍ مَعَ إِسْرائيلَ تَبْدو كَأَنَّها مُخْتَبَرٌ حَيٌّ لِمَدى صُمودِ الجُغْرافْيا أَمامَ حُروبٍ لَمْ تَعُدْ تَعْتَرِفُ بِالْخَرائِطِ التَّقْليدِيَّة.
إِنَّ التَّحَوُّلَ الاسْتْراتيجِيَّ فِي إِيرانَ يَبْدأ مِنَ الدّاخِلِ لا مِنَ الحُدود. فالمَرْكَزُ الذي شَكَّلَ قَلْبَ الدَّوْلَةِ يُواجِهُ اليَوْمَ تَآكُلًا لا يُقاسُ بِالاضْطِراباتِ الاجْتِماعِيَّةِ وَحْدَها، بَلْ بِقُدْرَةِ الجُغْرافْيا نَفْسِها على إِنْتاجِ تَماسُكٍ سِياسيٍّ وَأَمْنيٍّ يَتَناسَبُ مَعَ نَمَطِ التَّهْدِيداتِ الجَديدَة.
القوّة لم تعُد تُقاس بامتداد النفوذ الخارجي وحده بل بقدرة المركز على الصمود تحت الضغط
وَلَمْ يَعُدِ التَّهْديدُ خارِجِيًّا فَقَطْ؛ بَلْ صارَ وَثيقَ الصِّلَةِ بِقُدْرَةِ الأَطْرافِ على التَّعْطيلِ حينَ يَضْعُفُ العَقْدُ الاجْتِماعِيُّ أَوْ تَتَراجَعُ قُدْرَةُ الدَّوْلَةِ على تَوْفيرِ الخَدَماتِ وَضَبْطِ الإِيقاعِ الاقْتِصادِيّ. فالعُقوباتُ وَالأَزَماتُ المَعيشِيَّةُ خَلَقَتْ فَراغاتٍ اِجْتِماعِيَّةً تَتَحَوَّلُ سَريعًا إلى نِقاطِ ضَعْفٍ أَمْنِيَّةٍ، لَكِنَّها قَدْ تُصْبِحُ أَيْضًا رَصيدًا لِلصُّمودِ إِذا نَجَحَتِ الدَّوْلَةُ فِي إِدارَةِ التَّنَوُّعِ وَتَحْويلِهِ إلى أَداةِ تَعْبِئَةٍ وَطَنِيَّة.
المُعادَلَةُ اليَوْمَ مَعْكوسَةٌ؛ فالقُوَّةُ لَمْ تَعُدْ تُقاسُ بِاِمْتِدادِ النُّفوذِ الخارِجِيِّ وَحْدَهُ، بَلْ بِقُدْرَةِ المَرْكَزِ على الصُّمودِ تَحْتَ الضَّغْطِ وَإِعادَةِ إِنْتاجِ شَرْعِيَّةٍ داخِلِيَّةٍ تَمْنَعُ الانْكِشافَ قَبْلَ وُقوعِه. وَفِي زَمَنٍ تَتَغَيَّرُ فِيهِ طَبيعَةُ الحَرْبِ وَتَتَضاعَفُ فِيهِ كُلْفَةُ النُّفوذِ الخارِجِيِّ، يُصْبِحُ الدّاخِلُ الإِيرانِيُّ هُوَ خَطُّ الدِّفاعِ الأَوَّلِ، لَكِنَّهُ أَيْضًا المَجالُ الأَكْثَرُ عُرْضَةً لِلتَّآكُلِ إِذا لَمْ تُدارِ الجُغْرافْيا بِسِياسَةٍ جَديدَةٍ تَسْتَجيبُ لِمَوَازينِ القُوَّةِ المُتَحَوِّلَة.
وَلا يُمْكِنُ فَهْمُ الجُغْرافْيا الأَمْنِيَّةِ الإِيرانِيَّةِ بَعيدًا عَنِ الأَثَرِ العَميقِ الذي أَحْدَثَتْهُ العُقوباتُ على بُنْيَةِ الاقْتِصاد. فَقَدْ تَجاوَزَتِ العُقوباتُ حُدودَ المُؤَشِّراتِ الاقْتِصادِيَّة، وَأَعادَتْ رَسْمَ خَرائِطِ التَّوَتُّرِ داخِلَ الدَّوْلَة. فَهِيَ لَمْ تُضْعِفِ الاقْتِصادَ فَحَسْبُ، بَلْ حَوَّلَتِ التَّفاوُتَ الاقْتِصادِيَّ إلى تَفاوُتٍ أَمْنيٍّ، وَأَنْتَجَتْ مَناطِقَ هَشَّةً تَتَحَوَّلُ بِسُهولَةٍ إلى مَمَرّاتٍ لِلاخْتِراقِ أَوْ مِنَصَّاتٍ لِلاحْتِجاج.
وَمَعَ انْكِماشِ المَوارِدِ العامَّةِ، تَراجَعَتْ قُدْرَةُ الدَّوْلَةِ على تَمْويلِ مَشَاريعِ البُنْيَةِ التَّحْتِيَّةِ فِي المَناطِقِ الطَّرَفِيَّةِ، وَتَضاءَلَتْ إِمْكاناتُها فِي إِدارَةِ التَّنَوُّعِ العِرْقيِّ وَاِحْتِواءِ التَّوَتُّرات. وَالنَّتيجَةُ كانَتْ تَمَدُّدَ اِقْتِصادِ الظِّلِّ، وَتَعاظُمَ دَوْرِ شَبَكاتٍ غَيْرِ رَسْمِيَّةٍ تَخْلُقُ نُفوذًا مُوازِيًا لِلدَّوْلَةِ، وَتَسْتَفيدُ مِنْها أَطْرافٌ خَارِجِيَّةٌ تَبْحَثُ عَنْ ثَغَراتٍ فِي الجِدارِ الأَمْنيِّ الإِيرانِيّ. وَتَزامَنَ هَذا كُلُّهُ مَعَ اِرْتِفاعِ مُعَدَّلاتِ البَطالَةِ وَالتَّضَخُّمِ، ما وَفَّرَ بيئَةً اِجْتِماعِيَّةً قابِلَةً لِلاخْتِراقِ وَالتَّحْريض.
إيران تجد نفسها اليوم أمام جغرافيا داخليّة مُنهَكة
أَخْطَرُ ما أَنْتَجَتْهُ العُقوباتُ لَيْسَ تَراجُعَ القُوَّةِ الاقْتِصادِيَّةِ المُباشِرَةِ، بَلْ تَفَكُّكَ "التَّوازُنِ الجُغْرافيِّ لِلْأَمْنِ" الذي اِعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ إِيرانُ لِعُقود. فالدَّوْلَةُ التي كانَتْ تُوازِنُ الأَطْرافَ بِالاسْتِثْمار، وَالاحْتِجاجاتِ بِالاحْتِواء، وَالمَخاطِرَ بِالضَّبْطِ الإِدارِيّ، تَجِدُ نَفْسَها اليَوْمَ أَمامَ جُغْرافْيا داخِلِيَّةٍ مُنْهَكَة: مَناطِقُ مُسْتَنْزَفَةٌ اِقْتِصادِيًّا أَكْثَرُ قابِلِيَّةً لِلاشْتِعال، وَحُدودٌ واسِعَةٌ أَشَدُّ نَفاذًا لِلْخُصوم، وَمَرْكَزٌ مَضْغوطٌ يُضْطَرُّ إلى إِعادَةِ تَوْزيعِ مَوارِدِهِ وِفْقَ الضَّرورَةِ لا وِفْقَ اِسْتْراتيجِيَّةٍ طَويلَةِ المَدى.
وَفِي هَذا السِّياقِ، تَبْدو الجُغْرافْيا التي كانَتْ عُنْصُرَ قُوَّةٍ تَتَّجِهُ تَدْريجِيًّا إلى أَنْ تُصْبِحَ خَريطَةَ أَزَماتٍ مُتَصاعِدَةٍ تَحْتاجُ إلى إِدارَةٍ دَقيقَة. فالعُقوباتُ لَمْ تُنْهِكِ الدَّوْلَةَ فَقَطْ؛ بَلْ أَعادَتْ تَعْرِيفَ أَمْنِها الدّاخِليّ، وَجَعَلَتِ الاسْتِقْرارَ مُهِمَّةً جُغْرافِيَّةً وَاِقْتِصادِيَّةً فِي آنٍ وَاحِد، لا يَكْفِي فِيها الرَّدْعُ العَسْكَرِيُّ وَلا الضَّبْطُ الأَمْنِيُّ ما لَمْ تُجَدَّدْ دينامِيّاتُ النُّمُوِّ وَالتَّوازُنِ داخِلَ الخَريطَةِ الإيرانِيَّة.
وَلا يُشَكِّلُ التَّنَوُّعُ العِرْقِيُّ فِي إِيرانَ مُشْكِلَةً فِي ذاتِه، لَكِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلى عامِلِ ضَغْطٍ حِينَ تَتَداخَلُ الجُغْرافْيا الصَّعْبَةُ مَعَ تَنْمِيَةٍ غَيْرِ مُتَوازِنَةٍ وَبيئَةٍ إِقْليمِيَّةٍ مُضْطَرِبَة. فالْأَذَرِيّونَ وَالْأَكْرادُ وَالْبَلوشُ، إلى جانِبِ جَماعاتٍ أَصْغَر، يُشَكِّلونَ خَريطَةً تَمْتَدُّ على حُدودٍ واسِعَة، حَيْثُ يَتَحَوَّلُ أَيُّ خَلَلٍ اِقْتِصاديٍّ أَوْ سِياسيٍّ إلى نُقْطَةِ ارْتِكازٍ لِتَهْديداتٍ مُرَكَّبَة.
لِعُقودٍ طَويلَةٍ، اِعْتَمَدَتِ الدَّوْلَةُ مُعادَلَةَ "مَرْكَزٍ قَويٍّ وَأَطْرافٍ مَضْبوطَةٍ"، لَكِنَّ العُقوباتِ وَتَراجُعَ المَوارِدِ أَضْعَفا هَذا النَّموذَج. وَأَصْبَحَ التَّنَوُّعُ العِرْقِيُّ مادَّةً قابِلَةً لِلاشْتِعالِ تُسْتَغَلُّ فِي الحَرْبِ الرَّمادِيَّة، عَبْرَ مَجْموعاتٍ مُسَلَّحَةٍ صَغيرَةٍ أَوْ شَبَكاتِ تَهْريبٍ أَوْ حَمَلاتٍ دِعائِيَّةٍ تَسْتَهْدِفُ تَقْويضَ الوَلاءِ لِلدَّوْلَة.
التّنوُّع يتحوَّل إلى خطّ صدع استراتيجيّ حين تُدار الأطراف بمنطق الطوارئ وتُترك الحدود بوابات مفتوحة للضغوط
وَتُضاعِفُ الجُغْرافْيا الحُدودِيَّةُ دَرَجَةَ التَّعْقيدِ؛ فالْأَكْرادُ يَتَحَرَّكونَ فِي عُمْقٍ إِقْليمِيٍّ مُضْطَرِبٍ، وَالْبَلوشُ فِي بيئَةٍ هَشَّةٍ بَيْنَ باكِسْتانَ وَأَفْغانِسْتانَ، بَيْنَما تَجْمَعُ خوزِسْتانُ العَرَبِيَّةُ بَيْنَ ثِقَلِ النَّفْطِ وَتَوَتُّرِ الهُوِيَّةِ وَحُدودٍ مَفْتوحَةٍ على الخَليج. هَكَذا تُصْبِحُ الحُدودُ نَفْسُها مَنْشَأً لِلتَّهْديد، لا مُجَرَّدَ خَطٍّ فاصِل.
وَمَعَ تَطَوُّرِ أَدَواتِ الاخْتِراق، لَمْ يَعُدِ الجِدارُ الأَمْنِيُّ كافِيًا؛ فالمَسْأَلَةُ لَمْ تَعُدْ مَجْموعاتٍ مَحَلِّيَّةً فَقَطْ، بَلْ قُدْرَةَ الخُصومِ على اِسْتِخْدامِ الهُوِيَّةِ كأَداةٍ جِيوسِياسِيَّةٍ لِخَلْقِ "جُزُرِ ضَغْطٍ" داخِلَ الخَريطَةِ الإيرانِيَّة. وَكُلَّما اشْتَدَّ الضَّغْطُ الاقْتِصادِيُّ، اتَّسَعَتْ هَذِهِ الجُزُرُ، وَتَراجَعَ تَواصُلُ المَرْكَزِ مَعَ الأَطْرافِ، فازْدادَتْ فاعِلِيَّةُ الخِطابِ الانْفِصاليِّ وَالمُعارِض.
التَّحَدِّي إِذَنْ لَيْسَ وُجودَ الأَقَلِّيّاتِ، بَلْ تَراكُبَ الجُغْرافْيا وَالاقْتِصادِ وَالهُوِيَّةِ فِي لَحْظَةِ إِجْهادٍ داخِلِيّ. فالتَّنَوُّعُ قَدْ يَكونُ عُنْصُرَ قُوَّةٍ إِذا أَدْرَجَتْهُ الدَّوْلَةُ فِي مَشْروعٍ وَطَنِيٍّ جامِعٍ، لَكِنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلى خَطِّ صَدْعٍ اسْتْراتيجِيٍّ حينَ تُدارُ الأَطْرافُ بِمَنْطِقِ الطَّوارِئِ وَتُتْرَكُ الحُدودُ بَوَّاباتٍ مَفْتوحَةً لِلضُّغوط.
يَبْقَى أَنَّ نِطاقَ إِيرانَ الجِيوسِياسِيَّ هُوَ اِمْتِحانُها الأَكْبَر.
(خاص "عروبة 22")

