اقتصاد ومال

هَل تَحتاجُ مِصْرُ لِمِئَةِ عامٍ لِلتقَدُّمِ أمْ لِإرادَةٍ وَرُؤيَةٍ وتَخطيطٍ وَفِقْهِ الأوْلَوِيّات؟!

أَثارَ حَديثُ الرَّئيسِ المِصْريِّ عَنِ المَدى الزَّمَنيِّ الذي يَسْتَغْرِقُهُ تَحَوُّلُ الدولِ مِنْ دولٍ مُتَأَخِّرَة، إلى دولٍ نامِيَةٍ ثُمَّ مُتَقَدِّمَة، الكَثيرَ مِنَ الجَدَلِ لِأَنَّهُ أَشارَ إلى أَنَّ تِلْكَ العَمَلِيَّةَ قَدْ تَسْتَغْرِقُ 100 عام!.

هَل تَحتاجُ مِصْرُ لِمِئَةِ عامٍ لِلتقَدُّمِ أمْ لِإرادَةٍ وَرُؤيَةٍ وتَخطيطٍ وَفِقْهِ الأوْلَوِيّات؟!

مِصْرُ دَوْلَةٌ نامِيَةٌ فِعْلِيًّا، وَمُنْذُ سَنَواتٍ طَويلَة، وَلا تَكْتَمِلُ دائِرَةُ تَحَوُّلِها إلى دَوْلَةٍ صِناعِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ بِسَبَبِ الْقَضاءِ على تَجارِبِ النُّهوضِ الاقْتِصادي فيها بِفِعْلٍ عُدْوانيٍّ خارِجيٍّ، أَوْ بِفِعْلٍ ارْتِداديٍّ وَتَخْريبيٍّ داخِليٍّ لِلْمُحاوَلاتِ الكُبْرى الثَّلاثِ في عَهْدِ مُحَمَّدِ عَلي، وَفي مُحاوَلَةِ طَلْعَتْ حَرْب، وَفي الْإِنْجازِ الْأَعْظَمِ في العَهْدِ الناصِرِيِّ الذي أَنْجَزَتْ فيهِ مِصْرُ خُطَّتَها الخَمْسِيَّةَ الأولى التي رَكَّزَتْ على الاسْتِثْماراتِ الصِّناعِيَّةِ وَالبُنْيَةِ الْأَساسِيَّةِ عالِيَةِ العائِدِ في سَدِّ مِصْرَ العالي وَمَحَطَّتِهِ الكَهْرومائِيَّة. وَبِنِهايَةِ تِلْكَ الخُطَّةِ في عامِ 1965، كَانَتْ مِصْرُ تَتَقَدَّمُ على أَغْلَبِ القُوى الِاقْتِصادِيَّةِ الكُبْرى في آسْيا. وَبَعْدَ أَنْ كانَ إِسْهامُ الصِّناعَةِ التَّحْويلِيَّةِ في النّاتِجِ المَحَلّيِّ الْإِجْمالِيِّ المِصْريِّ مُجَرَّدَ 7.6% عامَ 1953، ارْتَفَعَ تَدْريجِيًّا لِيَبْلُغَ 22.5% في عامِ 1965. وَتَمَّ ذَلِكَ بِفِعْلٍ مُنَظَّمٍ وَمُخَطَّطٍ مِنَ الدَّوْلَةِ وَبِالِاعْتِمادِ على الذّاتِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَتَجاوَزِ الدُّيونُ الخارِجِيَّةُ حَتّى نِهايَةِ عامِ 1973، نَحْوَ 2.7 مِلْيارِ دولار.

بعد فقدان فقه الأولويات بلغ الناتج المحلي الإجمالي المصريّ نحو 383 مليار دولار في عام 2024

وَتَرْتيبًا على التَّوَسُّعِ الصِّناعيِّ في عَهْدِ عَبْدِ النّاصِرِ، ارْتَفَعَتْ قيمَةُ النّاتِجِ الصِّناعِيِّ خِلالَ الفَتْرَةِ مِنْ عامِ 1952 وَحَتَّى عامِ 1966 بِنِسْبَةِ 287%. وَتَحَقَّقَتِ الِارْتِفاعاتُ الْأَكْبَرُ في الصِّناعاتِ الكيماوِيَّةِ وَالدَّوائِيَّةِ، وَالطّاقَةِ وَالكَهْرَباء، وَالصِّناعاتِ الهَنْدَسِيَّةِ وَالكَهْرَبائِيَّة، وَصِناعاتِ الغَزْلِ وَالنَّسيج، وَمَوادِّ البِناءِ وَالحَرارِيّات، حَيْثُ ارْتَفَعَتْ قيمَةُ النّاتِجِ فيها بِالتَّرْتِيبِ بِنِسْبَةِ 636%، وَ483%، وَ468%، وَ343%، وَ312% خِلالَ الفَتْرَةِ المُشارِ إِلَيْها.

الناتِجُ المِصْرِيُّ مُقارَنَةً بِالصّينِ وَكورِيا وَإِنْدونيسْيا وَتايْلانْد: كَيْفَ كانَ وَكَيْفَ أَصْبَح؟

وفْقًا لِتَقْريرِ الْإِحْصاءاتِ المالِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ الصّادِرِ عَنْ "صُنْدوقِ النَّقْدِ الدَّوْليِّ" (IFS) بَلَغَ النّاتِجُ القَوْمِيُّ الإِجْمالِيُّ المِصْرِيُّ 5.1 مِلْياراتِ دولارٍ عامَ 1965، وَبَلَغَ مُتَوَسِّطُ نَصيبِ الْفَرْدِ مِنْهُ 173 دولارًا في العامِ المَذْكورِ، بَيْنَما بَلَغَتْ قيمَةُ النّاتِجِ في كورِيا الجَنوبِيَّةِ 3 مِلْياراتِ دولارٍ أَيْ ما يُعادِلُ 59% مِنْ نَظيرِهِ المِصْريِّ، وَمُتَوَسِّطُ نَصيبِ الْفَرْدِ مِنْهُ 105 دولاراتٍ أَيْ نَحْوَ 61% مِنْ نَظيرِهِ المِصْرِيّ. وَبَلَغَتْ قيمَةُ النّاتِجِ في الصّينِ 56.3 مِلْيارِ دولارٍ، أَيْ 1104% مِنْ نَظيرِهِ المِصْريِّ، وَبَلَغَ مُتَوَسِّطُ نَصيبِ الْفَرْدِ مِنْهُ 78 دولارًا، أَيْ 45% مِنْ نَظيرِهِ المِصْرِيّ. وَبَلَغَتْ قيمَةُ النّاتِجِ في تايْلانْد 3.9 مِلْياراتِ دولارٍ، أَيْ ما يُعادِلُ 76.5% مِنْ نَظيرِهِ المِصْريِّ، وَمُتَوَسِّطُ نَصيبِ الْفَرْدِ مِنْهُ 126 دولارًا، أَيْ نَحْوَ 72.8% مِنْ نَظيرِهِ المِصْرِيّ. وَبَلَغَتْ قيمَةُ النّاتِجِ القَوْميِّ في إِنْدونيسْيا نَحْوَ 5.2 مِلْياراتِ دولارٍ مُتَعادِلًا مَعَ نَظيرِهِ المِصْريِّ تَقْريبًا، وَمُتَوَسِّطُ نَصيبِ الْفَرْدِ مِنْهُ نَحْوَ 47 دولارًا، وَهُوَ ما يُعادِلُ 27.2% مِنْ نَظيرِهِ المِصْرِيّ. بِاخْتِصارٍ، كَانَتْ مِصْرُ دَوْلَةً ناهِضَةً وَقُوَّةً اقْتِصاديةً صاعِدَة.

أَمّا الْآنَ وَبَعْدَ العُدْوانِ الصُّهْيو-أَميرْكيِّ وَما تَلاهُ مِنْ مَسيرَةِ العَشْوائِيَّة، وَفُقْدانِ فِقْهِ الأَوْلَوِيّاتِ بِالتَّرْكيزِ على البُنْيَةِ الْأَساسِيَّةِ دونَ الصِّناعِيَّةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ، وَالتَّدَهْوُرِ النِّسْبِيِّ في عُهودِ مَنْ خَلَفوا عَبْد النّاصِر وَانْقَلَبوا على مَشْروعِهِ لِلتَّنْمِيَةِ المُسْتَقِلَّةِ، فَإِنَّ قيمَةَ النّاتِجِ المَحَلّيِّ الْإِجْماليِّ المِصْريِّ بَلَغَتْ نَحْوَ 383 مِلْيارَ دولارٍ في عامِ 2024، مُقارَنَةً بِنَحْوِ 18748، وَ1870، وَ1396، وَ526 مِلْيارَ دولارٍ لِكُلٍّ مِنَ الصّينِ، وَكورِيا الجَنوبِيَّةِ، وَإِنْدونيسْيا، وَتايْلانْد بِالتَّرْتيبِ في العامِ المَذْكُور. أَيْ أَنَّ النّاتِجَ في تِلْكَ الدُّوَلِ بِالتَّرْتيبِ كَنِسْبَةٍ مِنَ النّاتِجِ المِصْريِّ أَصْبَحَ يُعادِلُ 4895%، وَ488%، وَ365%، وَ137%.

مصر افتتحت التحديث الِاقتصادي في المنطقة وبدأت ثورة كبرى في التصنيع العسكري والمدني في عهد محمد علي

أَمّا النّاتِجُ المَحَلِّيُّ الْإِجْمالِيُّ المِصْرِيُّ المَحْسوبُ بِالدولارِ وَفْقًا لِتَعادُلِ القُوى الشِّرائِيَّةِ، فَقَدْ بَلَغَ 2227 مِلْيارَ دولارٍ عامَ 2024، مُقَارَنَةً بِنَحْوِ 38154، وَ3245، وَ4663، وَ1771 مِلْيارَ دولارٍ لِكُلٍّ مِنَ الصّينِ، وَكورِيا الجَنوبِيَّةِ، وَإِنْدونيسْيا، وَتايْلانْد بِالتَّرْتيبِ، وَهِيَ تُعادِلُ بِالتَّرْتيبِ نَفْسِهِ نَحْوَ 1713%، وَ146%، وَ294%، وَ80% مِنَ النّاتِجِ المَحَلّيِّ الْإِجْماليِّ المِصْرِيّ. وَبَلَغَتِ الدُّيونُ الخارِجِيَّةُ لِمِصْرَ نَحْوَ 50 مِلْيارَ دولارٍ عامَ 1988، قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ التَّخَلُّصُ مِنَ الجانِبِ الْأَكْبَرِ مِنْها مُقابِلَ المُشارَكَةِ في الحَرْبِ على العِراقِ عامَ 1991، وَتَطْبيقِ بَرْنامَجِ "الصُّنْدوقِ" وَتَخْفيضِ سِعْرِ صَرْفِ الجُنَيْهِ، وَبَيْعِ القِطاعِ العامّ. وَبَلَغَتْ تِلْكَ الدُّيونُ 35 مِلْيارَ دولارٍ في نِهايَةِ عَهْدِ مُبارَك، وَتَضاعَفَتْ لِتَبْلُغَ 161.2 مِلْيارَ دولارٍ في نِهايَةِ عامِ 2024.

مُحاوَلاتُ النُّهوضِ مِصْرِيًّا وَعالَمِيًّا وَمُتَطَلَّباتُها

وَلَوْ عُدْنا إلى الوَراءِ فَإِنَّ مِصْرَ افْتَتَحَتِ التَّحْديثَ الِاقْتِصادي في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّةِ في عَهْدِ محَمَّد عليّ عَبْرَ ثَوْرَةٍ في تَطْويرِ البُنْيَةِ الْأَساسِيَّةِ الزِّراعِيَّةِ بِشَبَكَةٍ هائِلَةٍ مِنَ التُّرَعِ وَالرِّياحاتِ لِتَعْميمِ الزِّراعَةِ المَرْوِيَّةِ عالِيَةِ الإِنْتاجِيَّةِ، وَبِزِراعَةِ مَحاصيلَ نَقْدِيَّةٍ وَعلى رَأْسِها القُطْنُ الذي وَضَعَ مِصْرَ في قَلْبِ التِّجارَةِ الدَّوْلِيَّة. كَما بَدأتْ ثَوْرَةٌ كُبْرى في التَّصْنيعِ العَسْكَريِّ وَالمَدَنيِّ في ذَلِكَ العَهْدِ سابِقَةً زَمَنِيًّا بِعُقودٍ عِدَّةٍ، على بَدْءِ التَّطَوُّرِ في الْيابانِ وَبَعْضِ دولِ شَرْقِ وَجَنوبِ أوروبا، وَتَمَّ وَأْدُها بَعْدَ تَحالُفِ بَريطانْيا وَأَلْمانْيا وَروسْيا وَالنَّمْسا وَتُرْكِيا لِتَحْطيمِ مُحاوَلَةِ محمّد علي، بِناءِ دَوْلَةٍ كُبْرى في المَشْرِقِ العَرَبيِّ وَلإِجْبارِهِ على فَتْحِ السّوقِ المِصْرِيَّةِ لِتَحْطيمِ الصِّناعَةِ المِصْرِيَّةِ النّاشِئَة.

وَخِلالَ العَهْدِ المَلَكيِّ وَتَحْتَ الِاحْتِلالِ الإِجْراميِّ البَريطَانيِّ، شَهِدَتْ مِصْرُ مُحاوَلَةً لِلنُّهوضِ الصِّناعِيِّ أَنْجَزَها محمّد طَلْعَتْ حَرْب، قَبْلَ أَنْ تَنْقَضَّ عَلَيْها بريطانْيا لِتَقْزيمِها. وَفي العَهْدِ النّاصِريِّ دَفَعَتْ مِصْرُ ثَوْرَتَها الزِّراعِيَّةَ إلى آفاقٍ جَديدَةٍ بِالإِصْلاحِ الزِّراعيِّ وَالجَمْعِيّاتِ التَّعاوُنِيَّةِ الزِّراعِيَّةِ، وَبِتَحْديثِ عَلاقَاتِ وَأَدَواتِ الإِنْتاجِ، وَبِإِنْشاءِ سَدِّ مِصْرَ العالي الذي حَوَّلَ مِصْرَ مِنْ دَوْلَةٍ خاضِعَةٍ لِمَشيئَةِ وَنَزَقِ نَهْرِ النّيلِ، إلى دَوْلَةٍ مُتَحَكِّمَةٍ فيه. كَما أَنْجَزَ خِلالَ عَشْرِ سَنَواتٍ وَلَيْسَ 100 عامٍ، ثَوْرَةً صِناعِيَّةً هائِلَةً وَحَقيقِيَّةً، وَأَصْبَحَتْ مِصْرُ في عامِ 1965 دَوْلَةً ناهِضَةً في طَريقِ التَّحَوُّلِ إلى دَوْلَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، قَبْلَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلْعُدْوانِ الصُّهْيو-أَميرْكيِّ في يونْيو/حَزِيرانَ 1967.

النهوض يتحقق بالتعليم والبحث والتطوير العلمي والتقني وبتخطيط اقتصادي كُلّي وقطاعي

وَفي السِّياقِ نَفْسِهِ، اسْتَعادَتِ اليابانُ وَدولُ أوروبا المُهَدَّمَةُ في الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثّانِيَةِ نُهوضَ اقْتِصاداتِها خِلالَ 10 سَنَوات. وَحَقَّقَتِ البُلْدانُ الاشْتِراكِيَّةُ في شَرْقِ أوروبا وَكَانَتْ كُلُّها زِراعِيَّةً وَمُتَخَلِّفَةً بِاسْتِثْناءِ أَلْمانْيا وَتْشيكوسْلوفاكْيا وَالمَجَرِ، نُمُوًّا مُبْهِرًا في الخَمْسينِيّاتِ وَالسِّتّينِيّاتِ مِنَ القَرْنِ الماضِي، حَوَّلَتْها كُلَّها إلى دُوَلٍ صِناعِيَّةٍ ناهِضَة.

وَبِاخْتِصارٍ... النُّهُوضُ الِاقْتِصادي - الاجْتِماعِيُّ يَتَحَقَّقُ بِتَوَفُّرِ الرُّؤْيَةِ وَالْإِرادَةِ وَالِاحْتِشادِ الادِّخاريِّ وَالاسْتِثْماريِّ لِتَحْقيقِ التَّنْمِيَةِ المُسْتَقِلَّةِ المُنْفَتِحَةِ على العالَمِ بِشَكْلٍ عادِلٍ وَمُتَكافِئٍ، وَيَتَحَقَّقُ بِالتَّعْليمِ وَالبَحْثِ وَالتَّطْويرِ العِلْميِّ وَالتِّقْنيِّ وَبِتَخْطيطٍ اقْتِصاديٍّ كُلّيٍّ وَقِطاعيٍّ، وَبِتَعْظيمِ الفَعّالِيَّةِ الاقْتِصاديةِ الاجْتِماعِيَّةِ، وَبِتَكْريسِ العَدالَةِ في مُجْتَمَعِ الْأَعْمالِ، وَالعَدالَةِ الِاجْتِماعِيَّةِ الَّتِي تُطْلِقُ مُضاعَفَ الاسْتِثْمارِ كَعِمادٍ جَوْهَريٍّ لأَيِّ دَوْرَةِ نُمُوٍّ وَازْدِهارٍ اقْتِصَادِيّ.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن