صِرْنا نَتَعَوَّدُ على الاسْتِخْدامِ القَهْريِّ لِلشّاشاتِ في حَياتِنا. وَهَذا الإِدْمانُ لا يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الإِدْمانات، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ كَذَلِكَ فُقْدانَ السَّيْطَرَةِ وَتَبَعِيَّةً عَميقَة. عِنْدَ التَّفْكيرِ في اسْتِعْمالِ التِّكْنولوجْيا، يَقْتَصِرُ التَّرْكيزُ عادَةً على مُدَّةِ اسْتِخْدامِ الأَجْهِزَةِ المادِّيَّة، من قَبيلِ الهَواتِفِ الذَّكِيَّة، وَالأَجْهِزَةِ اللَّوْحِيَّة، وَالسّاعاتِ الذَّكِيَّة، وَالنَّظّاراتِ الذَّكِيَّة، بَيْنَما يَتَغاضى عَنْ جَانِبٍ غَيْرِ مَلْموسٍ وَمُقْلِق، وَالذي أَشارَ إِلَيْهِ خوسيه أورتيغا إي غاسيت (José Ortega y Gassett) عامَ 1939 في تَأَمُّلٍ في التِّقْنِيَة، إِذْ كَتَبَ أَنَّ "المَرَضَ الأَساسِيَّ في عَصْرِنا قَدْ يَكونُ أَزْمَةً في الرَّغَبات (...)، فَالإِنْسانُ المـُعاصِرُ لا يَعْرِفُ ما الذي يُريدُ أَنْ يَكون، وَيَفْتَقِرُ إلى الخَيالِ لِصِياغَةِ قِصَّةِ حَياتِهِ الخاصَّة".
قَبْلَ ذَلِك، في عامِ 1933، أَوْضَحَ أُورتيغا في كِتابِهِ عَنْ "غاليليو" أَنَّ "الإِنْسانَ لا يَعْرِفُ ما الذي يَحْدُثُ لَهُ، وَهَذا بِالذّاتِ هُوَ ما يَحْدُثُ لَهُ: الإِنْسانُ المـُعاصِرُ بَدَأَ يَشْعُرُ بِالتّيهِ عَنْ ذاتِه".
على سَبيلِ المـِثال، في أَحَدِ أَيّامِ الأُسْبوع، وَعلى مَتْنِ قِطارِ المـِتْرو، جَلَسَتِ امْرَأَةٌ مَعَ ابْنِها الصَّغير، الذي لَمْ يَتَجاوَزِ السّابِعَةَ أَوِ الثّامِنَةَ من عُمْرِه، على مَقْعَدِهِما المـُعْتاد. بَعْدَ لَحَظاتٍ قَليلَةٍ، أَخْرَجَتِ الأُمُّ هاتِفَها من حَقِيبَتِها. نَظَرَ الطِّفْلُ إلى الهاتِف، ثُمَّ حَوَّلَ نَظَرَهُ إلى الرُّكّابِ من حَوْلِه، وَشَعَرَ بِالمـَلَلِ يَغْزو أَعْصابَه.. يُلِحُّ الطِّفْلُ: "ماما، شَغّْلي لي تيكْ توكْ". تَرْفُضُ الأُمُّ في البِدايَة، وَتُخْفي الهاتِفَ مُحاوِلَةً تَهْدِئَتَه، قائِلَةً إِنَّ الرِّحْلَةَ قَصيرَةٌ وَسَيَصِلانِ قَريبًا. لَكِنَّ الطِّفْلَ يُصِرُّ وَيَتَظاهَرُ بِالبُكاء، بَلْ وَيَصْرُخ، حَتّى تَسْتَسْلِمَ الأُمُّ أَخيرًا وَتُعْطِيَهُ الهاتِف. ما إِنْ يُمْسِكْهُ حَتّى يَهْدَأ، وَكَأَنَّ عالَمَهُ الصَّغيرَ أَصْبَحَ حاضِرًا بَيْنَ يَدَيْه.
وَعِنْدَما تَقْتَرِبُ المـَحَطَّةُ، تُطالِبُ الأُمُّ بِاسْتِرْجاعِ الهاتِف، يَتَشَبَّثُ الطِّفْلُ بِلَحْظَةِ الرّاحَةِ الرَّقْمِيَّةِ الأَخيرَة، قائِلًا: "انْتَظِري قَليلًا". تَأْخُذُ الأُمُّ الهاتِفَ في النِّهايَة، وَتَضَعُهُ في حَقيبَتِها، وَيُغادِرانِ القِطارَ بِسُرْعَة.
قَدْ يَبْدو تَصَرُّفًا بَريئًا أَوْ وَصْفًا لِمَشْهَدٍ بِلا أَهَمِّيَّة، لَكِنَّهُ يُخْفي الأَنْماطَ نَفْسَها المـَوْجودَةَ في أَيِّ إِدْمان. إِدْمانٌ صِرْنا نَعْتَبِرُهُ طَبيعِيًّا وَانْغَرَسَ بِصَمْتٍ في حَياتِنا: إِدْمانُ الشّاشات.
من يصبح مدمنًا على الشاشات يُضَيِّق نطاق وعيه
وَلَكِنْ، كَما يَقْتَرِحُ أورتيغا، لا يَنْبَغي لَنا الاقْتِصارُ على تَحْليلِ تَواصُلِنا الجَسَديِّ مَعَ هَذِهِ الأَجْهِزَةِ التي تُرافِقُنا في كُلِّ مَكان. إِدْمانُ الشّاشاتِ يُخْفي أَزْمَةً في الرَّغْبَةِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَمَ على أَنَّها مَرَضٌ في اللَّحْظِيَّة (أَوِ اسْتِحالَةِ التَّأْجيل)، وَالتَّلَذُّذِ المـُسْتَمِرّ، وَالتَّحْفيزِ المـُفْرِطِ الدائِم.
يَتَّسِمُ الإِدْمانُ بِسِمَتَيْنِ أَساسِيَّتَيْن: فُقْدانِ السَّيْطَرَةِ على الدّافِعِ، وَالاعْتِمادِ على المادَّةِ أَوِ السُّلوكِ المـُدْمِن. يَسْعى الفَرْدُ لِلحُصولِ على الشُّعورِ بِالرِّضا وَالهُدوءِ من خِلالِ اسْتِهْلاكِ العُنْصُرِ المـُسَبِّبِ لِلإِدْمان، مِمّا يُؤَدّي إلى خَلقِ روتينٍ يُصْبِحُ ضَرورِيًّا لِتَسْييرِ حَياتِهِ بِشَكْلٍ طَبِيعِيّ. وَمَعَ أَنَّ هَذا الاسْتِهْلاكَ قَدْ يَصْحَبُهُ سُلوكِيّاتٌ ضارَّةٌ أَوْ مُؤْذِيَةٌ لِلفَرْد (كالتَّوَتُّر، القَلَق، الحُزْن، الفَراغِ أَوِ الإِحْباط)، إِلّا أَنَّ الإِكْراهَ النَّفْسِيَّ يُؤَدّي وَظيفَتَهُ بِفاعِلِيَّة: فَقَدْ تُرَسِّخُ العادَةُ الإِدْمان، وَمن ثَمَّ فَإِنَّ المـُتْعَةَ السّابِقَةَ تَتَنَبَّأُ أَوْ تَعِدُ بِمُتْعَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّة، وَهِيَ ديناميكِيَّةٌ لا تُؤَثِّرُ فَقَطْ على سُلوكِنا، بَلْ تَمْتَدُّ أَيْضًا إلى آلِيّاتِنا النَّفْسِيَّةِ وَالفِسْيولوجِيَّة.
في حالَةِ الإِدْمانِ على الشّاشات، يُمْكِنُ إِضافَةُ عُنْصُرٍ ثالِث، مُرْتَبِطٍ أَيْضًا بِالمـُتْعَة: التَّخْديرُ أَوِ التَّنْويمُ الجُزْئِيّ. فَالاسْتِخْدامُ العَشْوائِيُّ لِلأَجْهِزَةِ المـَحْمولَةِ يَعْزِلُنا عَنِ العالَمِ وَيَجْعَلُنا نَتَجاوَزُهُ بِطَريقَةٍ كَسولَة.
مِنْ مَنْظورٍ نَفْسيٍّ، مَنْ يُصْبِحُ مُدْمِنًا على الشّاشاتِ يُضَيِّقُ بِذَلِكَ مَجالاتُهُ الحَياتِيَّة، لأًنَّهُ في الوَقْتِ نَفْسِهِ يُضَيِّقُ نِطاقَ وَعْيِه، أَوْ بِمَعْنى آخَر، يَفْقِدُ الاهْتِمامَ بِكُلِّ ما يُحيطُ بِالشَّيْءِ المـُدْمَنِ عَلَيْه. يَدورُ كُلُّ شَيْءٍ حَوْلَ الهاتِفِ المـَحْمول، وَالإِشْعاراتِ المـُسْتَمِرَّة، وَالتَّحْفيزِ الدّائِم، وَالإِشْباعِ المـُسْتَمِرّ.
مِنَ النّاحِيَةِ النَّفْسِيَّة ــ الفِسْيولوجِيَّة، يُثيرُ الإِدْمانُ على الشّاشات، كَما في غَيْرِهِ مِنَ الأَمْراضِ المـُماثِلَة، مُتَلازِمَةَ أَعْراضِ الامْتِناعِ بِسَبَبِ نَقْصِ التَّوْصيلاتِ الدّوبامينِيَّة. وَعِنْدَما يَبْتَعِدُ الفَرْدُ عَنِ العُنْصُرِ المـُسَبِّبِ لِلإِدْمانِ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ التَّوَتُّرُ أَوِ القَلَق، وَلا يُخَفِّفُ من تَوَتُّرِهِ العاطِفيِّ إِلّا عِنْدَ إِعادَةِ التَّواصُلِ مَعَ هَذا العُنْصُر. إِنَّها بِمَثابَةِ قُنْبُلَةٍ مَعْرِفِيَّة. وَبِطَريقَةٍ أَكْثَرَ ميتافيزيقِيَّة، لَكِنَّها رُبَّما أَوْضَح، الشّاشاتُ تَنْزِعُ مِنّا حُرِّيَّتَنا.
لقد صرنا أدوات للشاشة لا هي أداة لنا
ثَمَّةَ عامِلٌ يَزيدُ من خُطورَةِ التَّفاقُم: فَفي أَنْواعٍ أُخْرى مِنَ الإِدْمانِ لَيْسَتْ نَفْسِيَّةً فَحَسْب - كَما في حالَةِ الكُحول، أَوِ التَّبْغ، أَوْ حَتّى المـُضادّات، التي يَرْتَبِطُ إِدْمانُها أَكْثَرَ بِالمـُكَوِّناتِ الكيمْيائِيَّة - يَخِفُّ الأَلَمُ مُؤَقَّتًا عِنْدَ اسْتِهْلاكِ المادَّةِ المـُسَبِّبَةِ لِلإِدْمان. أَمّا في حالَةِ الإِدْمانِ النَّفْسيِّ على الشّاشاتِ، فَلا توجَدُ "جُرْعَةٌ" تَمْنَحُ الهُدوءَ أَوِ الطُّمَأْنينَة. وَبِالبَقاءِ مُتَّصِلينَ بِها طَوالَ الوَقْتِ، لا نُدْرِكُ حَتّى طَبيعَتَها الإِدْمانِيَّة، إِذْ صارَ اسْتِخْدامُها أَمْرًا طَبيعِيًّا وَمَأْلوفًا اجْتِماعِيًا. وَهَذا هُوَ الخَطَرُ الحَقيقِيُّ: لَقَدْ صِرْنا أَدَواتٍ لِلشّاشَة، لا هِيَ أَداةً لَنا.
هَلْ ثَمَّةَ حُلول؟.. بِدايَةً، لا بُدَّ أَنْ نُدْرِكَ المـُشْكِلَة، من دونِ إِنْكارِها أَوِ التَّقْليلِ من شَأْنِها بِاللُّجوءِ إلى حُجَجٍ مُسْتَنِدَةٍ إلى الماضي (قيلَ الشَّيْءُ نَفْسُهُ عَنِ السّينِما أَوِ التِّلفاز) أَوْ مُبَرِّراتِ التَّطْبيع ("إِنَّهُ عَمَلي" - "يَجِبُ التَّأَقْلُم"). إِحْدى السِّماتِ الجَوْهَرِيَّةِ لأَيِّ إِدْمانٍ هِيَ إِنْكارُ وُجودِه ("لا يوجد شَيْء" - "أَنا المـُسَيْطِرُ")، وَلِهَذا السَّبَبِ يَجِبُ أَنْ نَعِيَ أَنَّ سُلوكَنا قَدْ تَأَثَّرَ بِشَكْلٍ جَذْريٍّ بِاسْتِخْدامِ هَذِهِ الأَجْهِزَةِ بِشَكْلٍ مُفْرِط: فُقْدانُ الانْتِباهِ وَعَدَمُ القُدْرَةِ على التَّسْلِيَةِ إِلّا من خِلالِ الشّاشَة، وَالطَّلَبُ المـُسْتَمِرُّ لِلإِشْباع، وَالانْزِعاجُ أَوِ القَلَقُ عِنْدَ الانْفِصالِ عَنْها، الشُّعورُ بِالوَحْدَة، الإِحْساسُ بِالانْفِصال، الانْدِفاع، السُّلوكُ العُدْوانِيُّ أَوِ العَجْزُ عَنْ ضَبْطِ النَّفْس، تَدَهْوُرُ تَقْديرِ الذّات، انْخِفاضٌ حادٌّ في القُدْرَةِ على القِراءَةِ وَالفَهْمِ لَدى شَرائِحَ واسِعَةٍ مِنَ المـُجْتَمَع، العُزْلَة، وَالضَّعْفُ في المَهاراتِ الاجْتِماعِيَّة، وَقائِمَةٌ لا حَصْرَ لَها مِنَ الأُمورِ الأُخْرى.
أَخْتِمُ بِافْتِراضٍ يُمْكِنُ اعْتِبارُهُ أَيْضًا اسْتِنْتاجًا: الإِدْمانَ على الشّاشاتِ يَتَعَزَّزُ مُنْذُ مَرْحَلَةِ التَّعْلِيم!.
(خاص "عروبة 22")

