لَمْ تَشْهَدْ سوقُ العَمَلِ العَرَبِيَّةِ تَحَوُّلًا بِحَجْمِ ما تَشْهَدُهُ اليَوْمَ مَعَ دُخولِ الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ إلى القِطاعاتِ الحَيَوِيَّة. فالذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ لَمْ يَعُدْ مُجَرَّدَ تِكْنولوجْيا تَجْريبِيَّةٍ، بَلْ أَصْبَحَ رافِعَةً اقْتِصادِيَّةً كُبْرى تَتَوَقَّعُ "بْرايْس ووتِرْهاوْس كوبِرْز" (PricewaterhouseCoopers) الاسْتِشارِيَّةُ الأَميرْكِيَّةُ أَنْ تُضيفَ ما يُقارِبُ 320 مِلْيارَ دولارٍ إلى اقْتِصاداتِ المِنْطَقَةِ بِحُلولِ عامِ 2030، مِنْها 135 مِلْيارَ دولارٍ في المَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السَّعودِيَّةِ وَحْدَها، مَعَ آثارٍ إيجابِيَّةٍ تُماثِلُ 14 في المِئَةِ مِنْ ناتِجِ دَوْلَةِ الإِماراتِ العَرَبِيَّةِ المُتَّحِدَة. هَذِهِ الأَرْقامُ تَعْكِسُ تَعاظُمَ دَوْرِ التِّكْنولوجْيا في القِطاعاتِ الأَكْثَرِ اسْتِقْرارًا تَقْليدِيًّا: المَصارِف، والتَّعْليم، والإعْلام.
في القِطاعِ المَصْرِفي، تَتَّجِهُ المُؤَسَّساتُ المالِيَّةُ إلى رَقْمَنَةٍ عَميقَةٍ لِعَمَلِيّاتِها، تَشْمَلُ كَشْفَ الاحْتِيالِ وَتَحْليلَ المَخاطِرِ الائْتِمانِيَّةِ وَتَخْصيصَ المُنْتَجاتِ المالِيَّة. يُقَدِّرُ تَقْريرٌ لِلْمُنْتَدى الاقْتِصادِيِّ العالَميِّ أَنَّ الذَّكاءَ الاصْطِناعِيَّ قَدْ يُساهِمُ بِما يَصِلُ إلى 13 في المِئَةِ من النّاتِجِ في بُلْدانِ الخَليجِ بِحُلولِ عامِ 2030، فيما تُشيرُ سِجِلّاتُ الاسْتِثْمارِ إلى أَنَّ رُبْعَ الاسْتِثْماراتِ في الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ في المِنْطَقَةِ تَتَرَكَّزُ داخِلَ القِطاعِ المالِيّ. هَذَا التَّحَوُّلُ يُتيحُ فُرَصًا جَديدَةً لِمُحَلِّلي البَيانات، وَمُهَنْدِسي الخَوارِزْمِيّات، وَخُبَراءِ الأَمْنِ السّيبْرانيّ، لَكِنَّهُ في المُقابِلِ يُهَدِّدُ وَظائِفَ روتينِيَّةً لَطالَما شَكَّلَتِ العَمودَ الفِقْرِيَّ لِلْمَصارِفِ العَرَبِيَّة، مِثْلَ الوَظائِفِ المَكْتَبِيَّة، وإدْخالِ البَيانات، وَمُعالَجَةِ الطَّلَباتِ البَسيطَة.
سيتأثّر نحو ثلث الوظائف حول العالم جذريًا بالأتمتة بحلول 2030
في التَّعْليم، تَبْدو التَّحَوُّلاتُ أَكْثَرَ عُمْقًا، لِأَنَّ الذَّكاءَ الاصْطِناعِيَّ يَدْخُلُ في صُلْبِ العَمَلِيَّةِ التَّرْبَوِيَّة: التَّقْييمُ الآلِيّ، والتَّعَلُّمُ التَّكَيُّفِيّ، والمُتابَعَةُ التَّرْبَوِيَّةُ الرَّقْمِيَّة، وَتَخْصيصُ المُحْتَوى التَّعْليميِّ لِكُلِّ طالِب.
دُوَلٌ مِثْلُ السَّعودِيَّةِ والإِماراتِ ضَمَّتِ الذَّكاءَ الاصْطِناعِيَّ إلى بَرامِجِ إِصْلاحِ التَّعْليمِ مِنْ ضِمْنِ اسْتراتيجِيّاتٍ وَطَنِيَّةٍ طَمُوحَة. وَفي حينِ يَزْدادُ الطَّلَبُ على خُبَراءِ تَصْميمِ التَّجارِبِ التَّعْليمِيَّةِ الرَّقْمِيَّةِ وَمُطَوِّري المُحْتَوى وَدَمْجِ البَياناتِ التَّرْبَوِيَّة، تُطْرَحُ تَساؤُلاتٌ حَوْلَ مَصيرِ الأَدْوارِ التَّدْريسِيَّةِ التَّقْليدِيَّةِ المُسْتَنِدَةِ إلى التَّلْقين، والتي يُرَجَّحُ أَنْ يَفْقِدَ جُزْءٌ كَبيرٌ مِنْها أَهَمِّيَّتَهُ في عَصْرِ التَّعْليمِ المُدْمَجِ والذَّكِيّ.
أَمّا في الإِعْلام، فَقَدْ أَصْبَحَ الذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ جُزْءًا لا يَتَجَزَّأ مِنْ غُرَفِ الأَخْبار: التَّرْجَمَةُ الفَوْرِيَّة، وَكِتابَةُ المُسَوَّدات، وَتَدْقيقُ المَعْلومات، وَتَلْخيصُ النُّصوص، وَتَصْنيفُ المُحْتَوى.
عَدَدٌ من المُؤَسَّساتِ العَرَبِيَّةِ الكُبْرى تَبَنَّتْ أَدَواتٍ لإِنْتاجِ نُسَخٍ مُتَعَدِّدَةِ اللُّغاتِ من المَوادِّ الإِعْلامِيَّة، وَلإِدارَةِ المُحْتَوى على نَحْوٍ آلِيّ. يُنْتِجُ ذَلِكَ طَلَبًا مُتَزايِدًا على مَهاراتٍ جَديدَة: صِحافَةُ البَيانات، والتَّحَقُّقُ الرَّقْمِيّ، وإِدارَةُ المُجْتَمَعاتِ الرَّقْمِيَّة. وَفي المُقابِلِ، تَبْدو المِهَنُ التَّقْليدِيَّةُ مِثْلُ تَحْريرِ الأَخْبارِ القَصيرَةِ أَوْ تَلْخيصِ البَرْقِيّاتِ أَقَلَّ حاجَةً لِلْقُوى البَشَرِيَّة.
الشركات تطلب مهارات رقميّة متقدّمة بمعدل يتزايد سنويًا لكنّ عرض هذه المهارات لا يزال محدودًا
هَذَا التَّحَوُّلُ الشّامِلُ يَنْعَكِسُ بِدَوْرِهِ على هَيْكَلِ الوَظائِفِ في المِنْطَقَة. وبِحَسَبِ مُنْتَدى الاقْتِصادِ العالَميّ، سَيَتَأَثَّرُ نَحْوَ ثُلُثِ الوَظائِفِ حَوْلَ العالَمِ جَذْرِيًّا بِالأَتْمَتَةِ بِحُلولِ عامِ 2030، ما يَعْني بِالنِّسْبَةِ إلى العالَمِ العَرَبيِّ احْتِمالاتِ تَراجُعٍ واسِعَةً في وَظائِفَ إِدارِيَّةٍ وَروتينِيَّةٍ كانَ يُفْتَرَضُ أَنَّها أَكْثَرُ أَمانًا. في الوَقْتِ نَفْسِهِ، تَتَوَسَّعُ وَظائِفُ جَديدَةٌ في تَحْليلِ البَيانات، والأَمْنِ السّيبْرانيّ، وَتَصْميمِ المُنْتَجاتِ الرَّقْمِيَّة، وَصِناعَةِ المُحْتَوى المُتَخَصِّص. لَكِنَّ هَذِهِ الوَظائِفَ تَتَطَلَّبُ مَهاراتٍ رَقْمِيَّةً عالِيَةً، وَهِيَ مَهاراتٌ يُعاني العالَمُ العَرَبِيُّ مِنْ فَجْوَةٍ كَبيرَةٍ فيها.
تَقْريرٌ لِلَجْنَةِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ الاقْتِصادِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ لِغَرْبِ آسْيا (إسْكْوا) يَسْتَنِدُ إلى تَحْليلِ 1.7 مِلْيونِ إِعْلانِ وَظيفَةٍ عَرَبِيَّة، يُظْهِرُ أَنَّ الشَّرِكاتِ تَطْلُبُ مَهاراتٍ رَقْمِيَّةً مُتَقَدِّمَةً بِمُعَدَّلٍ يَتَزايَدُ سَنَوِيًّا، لَكِنَّ عَرْضَ هَذِهِ المَهاراتِ لا يَزالُ مَحْدودًا. أَمّا وَرَقَةٌ أَعَدَّها البَنْكُ الدَّوْلِيُّ حَوْلَ مُسْتَقْبَلِ العَمَلِ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَشِمالِ أَفْريقْيا، فَتُشيرُ إلى أَنَّ نِسْبَةَ العَمالَةِ المُؤَهَّلَةِ رَقْمِيًّا لَمْ تَتَجاوَزِ اثْنَيْنِ في المِئَةِ من القُوَّةِ العامِلَةِ في عامِ 2017، وَهُوَ رَقْمٌ يُعَبِّرُ عَنْ قُصورٍ هَيْكَلِيّ. وَفي العِراق، بَيَّنَتْ تَقارِيرُ دَوْلِيَّةٌ أَنَّ 60 في المِئَةِ من الشَّبابِ يَفْتَقِدونَ المَهاراتِ الرَّقْمِيَّةِ الأَساسِيَّة، وَفي لُبْنانَ تُواجِهُ 88 في المِئَةِ من الشَّرِكاتِ صُعوبَةً في إيجادِ الكَفاءاتِ المُناسِبَة، على الرَّغْمِ مِنِ اقْتِرابِ البَطالَةِ مِنْ 30 في المِئَة.
وَمَعَ وُجودِ اسْتراتيجِيّاتٍ وَطَنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ في الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ لَدَى بُلْدانِ الخَليج، وَجُمْهورِيَّةِ مِصْرَ العَرَبِيَّة، والمَمْلَكَةِ المَغْرِبِيَّة، والمَمْلَكَةِ الأُرْدُنِيَّةِ الهاشِمِيَّة، يُواجِهُ التَّنْفيذُ عَقَباتٍ حَقيقِيَّة: نَقْصُ تَشْريعاتِ حِمايَةِ العامِلين، وَضَعْفُ أَنْظِمَةِ المَعْلوماتِ في سوقِ العَمَل، وَغِيابُ آلِياتِ إِعادَةِ التَّأْهيلِ المِهْنِيّ.
سيكون مستقبل العمل العربي رهنًا بقدرة الأنظمة التعليمية والتدريبية على مواكبة التحوّل وبسرعة تحديث التشريعات
تَقْريرٌ لِمُنَظَّمَةِ العَمَلِ الدَّوْلِيَّةِ عَنْ عامِ 2024 يُحَذِّرُ بِوُضوحٍ مِنْ أَنَّ غِيابَ السَّياساتِ الاجْتِماعِيَّةِ المُواكِبَةِ لِلتَّحَوُّلِ الرَّقْميِّ قَدْ يُؤَدّي إلى اتِّساعِ الفَجْوَةِ بَيْنَ العامِلينَ ذَوي المَهاراتِ العالِيَةِ والعامِلينَ العالِقينَ في وَظائِفَ مُهَدَّدَةٍ مِنْ دونِ إِمْكانِيَّةِ انْتِقالٍ سَلِسٍ إلى وَظائِفَ جَديدَة.
الأَثَرُ الأَعْمَقُ لِهَذِهِ التَّحَوُّلاتِ يَظْهَرُ في الهِجْرَةِ والبَطالَة. فَمِنْ جِهَة، قَدْ يُؤَدّي تَقَلُّصُ الوَظائِفِ الرّوتينِيَّةِ إلى زِيادَةِ الضُّغوطِ على الشَّبابِ لِلْهِجْرَة. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، نَشأَ ما يُسَمّيهِ الخُبَراءُ "الهِجْرَةَ الرَّقْمِيَّة"، إِذْ يَعْمَلُ شُبّانٌ عَرَبٌ عَنْ بُعْدٍ لِمَصْلَحَةِ شَرِكاتٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَبْرَ مِنَصّاتٍ عالَمِيَّة، ما يَعْني خُروجَ القيمَةِ المُضافَةِ من الاقْتِصادِ المَحَلّيِّ حَتّى مِنْ دونِ مُغادَرَةِ العامِلِ جُغْرافيًا. وَتُظْهِرُ دِراساتٌ إِقْليمِيَّةٌ أَنَّ نَحْوَ 40 في المِئَةِ مِنْ عامِلي التَّوْصيلِ في الجُمْهورِيَّةِ اللُّبْنانِيَّة، وَ60 في المِئَةِ في المَغْرِب، يَلْجَأونَ إلى عَمَلِ المِنَصّاتِ لِغِيابِ فُرَصِ العَمَلِ الأُخْرى، ما يَعْكِسُ هَشاشَةَ البُنْيَةِ الاقْتِصادِيَّةِ وَغِيابَ فُرَصِ التَّوْظيفِ اللّائِق.
هَكَذَا، يَقِفُ المُوَظَّفُ العَرَبِيُّ أَمامَ مُفْتَرَقِ طَريق: إِمّا الانْدِماجُ في اقْتِصادِ المَعْرِفَةِ عَبْرَ اكْتِسابِ مَهاراتٍ جَديدَة، وإمّا البَقاءُ في وَظائِفَ مُعَرَّضَةٍ لِلانْدِثار. سَيَكونُ مُسْتَقْبَلُ العَمَلِ العَرَبيِّ رَهْنًا بِقُدْرَةِ الأَنْظِمَةِ التَّعْليمِيَّةِ والتَّدْريبِيَّةِ على مُواكَبَةِ هَذا التَّحَوُّل، وَبِسُرْعَةِ تَحْديثِ التَّشْريعاتِ التي تُنَظِّمُ العَلاقَةَ بَيْنَ العامِلِ والتِّكْنولوجْيا.
(خاص "عروبة 22")

