الفساد وسبل الإصلاح

مِصْر... انْتِخاباتٌ بِطَعْمِ الفَضيحَة!

وَكَأَنَّ الحُكْمَ الحالِيَّ في مِصْرَ كانَ يَحْتاجُ لِلمَزيدِ مِنَ الأَزَماتِ والكَوارِثِ وَمَظاهِرِ الفَشَلِ الذَّريعِ التي يَتَرَدّى فيها وَمَعَهُ المُجْتَمَعُ والدَّوْلَةُ على كُلِّ صَعيدٍ وَفي المَجالاتِ الاقْتِصادِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ كافَّةً وَغَيْرِها... كَأَنَّهُ لَمْ يَكْفِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِيُضيفَ إِلَيْهِ مَشْهَدَ فَشَلٍ مُدَوٍّ آخَرَ غَيْرِ مَسْبوقٍ يُلامِسُ حُدودَ الفَضيحَةِ الكامِلَةِ وَمَذاقَ الخَيْبَةِ التّامَّة.

مِصْر... انْتِخاباتٌ بِطَعْمِ الفَضيحَة!

إِنَّهُ مَشْهَدُ انْتِخاباتِ البَرْلَمانِ الأَخيرَةِ بِغُرْفَتَيْهِ مَجْلِسِ الشُّيوخِ وَمَجْلِسِ النُّوّاب، إِذْ تَفَجَّرَتْ فَجْأَةً عِنْدَ المَرْحَلَةِ الأولى مِنِ انْتِخاباتِ المَجْلِسِ الأَخِيرِ عَناصِرُ فَضائِحَ واخْتِلالاتٍ بُنْيَوِيَّةٍ بَدَتْ راقِدَةً وَمُتَوَطِّنَةً في أَحْشاءِ النِّظامِ على نَحْوٍ يَشي بِانْعِدامٍ شِبْهِ كُلِّيٍّ لِلكَفاءَةِ وَغِيابِ أَيِّ قُدْرَةٍ لَيْسَ فَقَطْ على إِدارَةِ بَلَدٍ بِحَجْمِ مِصْر، وإِنَّما أَيْضًا أَظْهَرَ المَشْهَدُ أَنَّ النِّظامَ فَقيرٌ لِحَدِّ العَدَمِ في الكَفاءَةِ اللّازِمَةِ لِإِدارَةِ شُؤونِ نَفْسِهِ والحِفاظِ على حَدٍّ أَدْنى مِنِ انْضِباطِ وانْتِظامِ صُفوفِ قُطْعانِ السّارِحينَ في جَنَباتِهِ والمُسْتَفيدينَ مِنْ خَيْراتِه.

مهرجان التزوير الانتخابي الأخير تعبيرٌ قوي عن صراع فوضوي عنيف في أوساط الحُكم

طَبْعًا غَنِيٌّ عَنِ البَيانِ أَنَّ المِصْرِيّينَ تَعَوَّدوا خِلالَ عَشَراتِ السِّنينَ على مَشاهِدَ انْتِخابِيَّةٍ مُزْرِيَةٍ وَبائِسَةٍ جِدًّا يَصِلُ التَّزْويرُ فيها مِنَ الفُحْشِ إلى حَدِّ الاخْتِلاقِ التّامِّ لِلنَّتائِجِ مِنَ العَدَمِ تَقْريبًا، وَمَعَ ذَلِكَ بَدَتِ الانْتِخاباتُ الأَخيرَةُ الأَشَدَّ فَظاعَةً وَفَوْضَوِيَّةً وَجُنونًا بَيْنَ كُلِّ المَشاهِدِ السّابِقَة، كَما بَدَتْ في الوَقْتِ نَفْسِهِ الأَكْثَرَ تَعْبيرًا عَنِ الحالِ البائِسَةِ والنّادِرَةِ لِنِظامٍ قَمْعيٍّ ضَرَبَتِ الفَوْضى بِأَطْنابِها في أَعْلى بُنْيانِه، آيَةُ ذَلِكَ لَيْسَ إِطْلاقَ أَجْهِزَةِ الأَمْنِ بِمُخْتَلِفِ أَنْواعِها على المُجْتَمَعِ والنّاسِ بِلا أَيِّ قُيودٍ وَلا حُدودٍ قانونِيَّةٍ أَوْ أَخْلاقِيَّةٍ فَحَسْب، وَلَكِنْ أَيْضًا جَرى تَوْزيعُ جَحافِلِ أَتْباعِهِ عَلَيْها، وَتُرِكَ لِكُلِّ جِهازٍ مِنْها أَنْ يُؤَسِّسَ "حِزْبًا" يَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ وَتُنافِسُ زُمْرَتُهُ الآخَرينَ على شَتَّّى أَنْواعِ المَغانِمِ بِما فيها مَقاعِدُ البَرْلَمانِ بِغُرْفَتَيْه، في ظِلِّ غِيابٍ قَسْريٍّ لِكُلِّ مُعارَضَةٍ حَقيقِيَّةٍ في البِلادِ سَواءٌ كانَتْ أَحْزابًا أَوْ شَخْصِيّات.

إِنَّ ما مَيَّزَ مِهْرَجانَ التَّزْويرِ الانْتِخابيِّ الأَخيرَ وَفاقَمَهُ وَصَنَعَ مِنْهُ حالَةً فَضائِحِيَّةً نادِرَةً لَيْسَ كَوْنَهُ تَزْويرًا فَجًّا فَحَسْب، لَكِنَّهُ أَيْضًا أَظْهَرَ بِوُضوحٍ ساطِعٍ أَنَّهُ تَعْبيرٌ قَوِيٌّ عَنْ صِراعٍ فَوْضَوِيٍّ عَنيفٍ في أَوْسَاطِ الحُكْم، ما دَفَعَ رَئيسَ الجُمْهورِيَّةِ إلى التَّدَخُّلِ شَخْصِيًّا وَعَلَنًا لَدى ما يُسَمّى اللَّجْنَةَ العُليا لِلِانْتِخاباتِ "المُسْتَقِلَّةَ" في مُحاوَلَةٍ لِلَجْمِ الفَضيحَةِ وَحِصارِ كَوارِثِها.

خليط جهنّمي من التزييف والفشل والفساد فاض كشلال كاسح عارم أطاح بما تبقى من شرعيّة الحُكم

وَبَعْدَ هَذَا التَّدَخُّلِ الرِّئاسيِّ مُباشَرَةً أُلغِيَتْ نَتائِجُ الانْتِخاباتِ في نَحْوِ 70% مِنْ دَوائِرِ وَلِجانِ الاقْتِراعِ في البِلادِ وَتَقَرَّرَ إِعادَتُها كُلُّها، وَهِيَ سابِقَةٌ لَمْ تَحْدُثْ مِنْ قَبْلُ في مِصْر، وَغالِبًا لَيْسَ في غَيْرِها مِنْ بُلدانِ العالَمِ التي تَرْزَحُ شُعوبُها تَحْتَ حُكْمِ الاسْتِبْدادِ حَيْثُ يَحْتَكِرُ حِزْبٌ واحِدٌ وَحِيدٌ السُّلطَةَ والنُّفوذَ كُلَّهُ، وَلَيْسَ كَما في الحالِ المِصْرِيَّةِ المُدْهِشَةِ الرّاهِنَة، أُسِّسَتْ ثَلاثَةُ أَحْزابٍ على الأَقَلِّ يَجْمَعُها كُلَّها الوَلاءُ التامُّ لِلنِّظامِ لَكِنَّها تَتَصارَعُ وَتَتَعارَكُ هِيَ والأَجْهِزَةُ التي أَسَّسَتْها، على مَنْ يَسْتَطيعُ التِهامَ الجُزْءِ الأَكْبَرِ مِنَ الكَعْكَة، سَواءٌ ما خَصَّ مَقاعِدَ المَجالِسِ التَّشْريعِيَّةِ أَوْ غَيْرَها مِنَ المَنافِعِ والمَكاسِبِ الأُخْرى!.

إِذَنْ التَّزْويرُ الفاحِشُ المُعْتادُ لَمْ يَكُنْ هُوَ سَبَبَ الفَضيحَةِ المُباشِر، وَلَكِنَّ السَّبَبَ أَنَّ هَذا التَّزْويرَ جَرى في سِياقِ صِراعٍ شَديدِ الخُشونَةِ بَيْنَ أَتْباعِ النِّظامِ أَنْفُسِهِم، وَتَوَسَّلَ كُلُّ طَرَفٍ مِنْ أَطْرافِ المُوالاةِ بِالتَّزْويرِ الفاجِرِ كَسِلاحٍ ضِدَّ الطَّرَفِ الآخَر، هَذا فَضْلًا عَنْ أَنَّ أَغْلَبَ المُرَشَّحينَ هَؤُلاءِ دَفَعوا أَمْوالًا وَمَبالِغَ طَائِلَةً بَلَغَتْ مِئَاتٍ كَثيرَةً مِنَ المَلايينِ مُقابِلَ الفَوْزِ المَضْمونِ بِمَقاعِدِ البَرْلَمان.

استُبيحت كل الأسلحة غير المشروعة ابتداءً من المال السياسي حتى أشد فنون التزوير فجاجة وجرأة

وَقَدْ زادَ الطّينَ بِلَّةً انْخِراطُ أَجْهِزَةٍ أَمْنِيَّةٍ خَطيرَةٍ جاهَدَ كُلٌّ مِنْها جِهادَ الأَبْطالِ لِكَيْ يَميلَ المِيزانُ في مِهْرَجانِ التَّزْويرِ الانْتِخابيِّ هَذا لِصالِحِ أَعْضاءِ الحِزْبِ الذي يَرْعاهُ كُلُّ جِهازٍ على حِسابِ الأَحْزابِ والأَجْهِزَةِ الأُخْرى.

وَأَدَّى هَذا المَشْهَدُ الفَوْضَوِيُّ المُرَوِّعُ إلى انْفِجارِ ذاكَ الخَليطِ الجَهَنَّميِّ مِنَ التَّزْييفِ والفَشَلِ والفَسادِ وَفاضَ كَشَلّالٍ كاسِحٍ عارِمٍ أَطاحَ بِما تَبَقّى مِنْ شَرْعِيَّةٍ لِحُكْمٍ يُعاني أَصْلًا مِنْ فَقْرٍ مُدْقِعٍ في شَرْعِيَّةِ القَبولِ الشَّعْبيِّ بِتَأْثيرِ تَراكُمِ نَتائِجِ سِياساتٍ اقْتِصادِيَّةٍ واجْتِماعِيَّةٍ هَوْجاءَ وَفاشِلَةٍ دَفَعَتْ أَغْلَبِيَّةَ السُّكانِ السّاحِقَةَ إلى هاوِيَةٍ عَميقَةٍ مِنَ الفَقْرِ والعَدَمِ لامَسَتْ حُدودَ الإِبادَةِ الجَماعِيَّةِ البَطيئَة!.

أهمية المجلس في دورته المقبلة أنه ستُجرى في وجوده انتخابات تجديد ولاية الرئيس للمرة الثالثة

أَظْهَرَ الحُكْمُ عَشْوائِيَّةً وانْعِدامَ كَفاءَةٍ مُرَوِّعَيْنِ وَهُوَ يُديرُ مَشْهَدَ هَذا الاسْتِحْقاقِ الانْتِخابيِّ المُهِمِّ والمُزَوَّرِ أَصْلًا مِنَ المَنْبَع، إِذْ جَرى هَنْدَسَتُهُ قانونًا بِحَيْثُ يَسْهُلُ اسْتِيلاءُ المُوالينَ على أَغْلَبِيَّةٍ كاسِحَةٍ مِنْ مَقاعِدِ البَرْلَمان، فَنِصْفُ المَقاعِدِ ـ حَسَبَ القانونِ الانْتِخابيّ ـ مَضْمونَةٌ تَمامًا لِأَنَّها تَأْتي عَبْرَ نِظامِ القائِمَةِ المُطْلَقَة، وَلَمْ يَتِمَّ السّماحُ سِوَى لِقائِمَةٍ واحِدَةٍ فَقَطْ (قائِمَةِ المُوالِين) بِخَوْضِ المُعْتَرَكِ الانْتِخابيِّ فَنافَسَ المُوالونَ أَنْفُسَهِمْ وَفازوا طَبْعًا بِنِصْفِ المَقاعِدِ في بَدْءِ المَشْهَد، وَبَقِيَ النِّصْفُ الثّانِي مِنْ مَقاعِدِ النُّوابِ التي قَضى القانونُ أَنْ تَكونَ عَبْرَ نِظامِ التَّرْشيحِ الفَرْدِيّ، وَعلى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الأَغْلَبِيَّةَ السّاحِقَةَ مِمَّنْ تَرَّشَّحوا على هَذِهِ المَقاعِدِ هُمْ مِنْ غُلاةِ المُوالينَ إِلّا أَنَّ الصِّراعَ العَنيفَ الذي دارَ بَيْنَهُمْ اسْتُبيحَتْ فيهِ كُلُّ الأَسْلِحَةِ غَيْرِ المَشْروعَةِ ابْتِداءً مِنَ المالِ السِّياسيِّ حَتّى أَشَدِّ فُنونِ التَّزْويرِ فَجاجَةً وَجُرْأَة.

وَبَعيدًا عَنِ الدَّوْرِ الرَّقابيِّ والتَّشْريعيِّ لِلبَرْلَمانِ وَكِلاهُما مُعَطَّلٌ تَمامًا، فَإِنَّ أَهَمِّيَّةَ هَذا المَجْلِسِ في دَوْرَتِهِ المُقْبِلَةِ أَنَّهُ سَتُجْرى في وُجودِهِ انْتِخاباتُ تَجْديدِ وِلايَةِ الرَّئيسِ عَبْدِ الفَتّاحِ السّيسي لِلمَرَّةِ الثّالِثَة، وَرُبَّما يَحْتاجُ الأَمْرُ لِتَعْديلٍ دُسْتوريٍّ جَديدٍ يَفْتَحُ سَقْفَ المُدَدِ الرِّئاسِيَّةِ المُحَدَّدَةِ حالِيًّا بِمُدَّتَيْنِ مَعَ اسْتِثْناءٍ خاصٍّ لِلرَّئيسِ السّيسي تَمَّ عَبْرَ تَعْديلٍ دُسْتوريٍّ سابِق.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن