لا شَكَّ أَنَّ تَوْقيتَ النَّدْوَةِ كَثيفُ الدَّلالَة، بِاعْتِبارِ أَنَّ مَشْروعَ بِناءِ المَغْرِبِ العَرَبيِّ الذي انْطَلَقَ في أَبْريل/ نَيْسان 1989، غابَ كُلِّيًّا في السَّنَواتِ الأَخيرَةِ عَنِ الأَجَنْدَةِ الإِقليمِيَّة، وَغَدا بِالنِّسْبَةِ لِلكَثيرينَ حُلمًا مُتَجاوَزًا، على الرَّغْمِ من أَنَّ هَياكِلَهُ المُؤَسَّسِيَّةَ مَا زالَتْ قائِمَة، وَإِنْ كَانَ نَشاطُها مُجَمَّدًا مُنْذُ سَنَوات.
بَيْدَ أَنَّ ما أَكَّدَتْهُ الشَّخْصِيّاتُ الفِكْرِيَّةُ وَالسِّياسِيَّةُ التي شارَكَتْ في لِقاءِ نواكْشوط هُوَ أَنَّ هَذا الحُلمَ لا يَزالُ حَيًّا، بَل إِنَّهُ ضَرورَةٌ قُصْوى ظَهَرَتْ راهِنِيَّتُها أَكْثَرَ من أَيِّ وَقْتٍ مَضى.
لَقَدْ تَمَحْوَرَ النِّقاشُ حَوْلَ طَبيعَةِ المَدْخَلِ المِحْوَرِيِّ لِوَحْدَةِ المَغْرِبِ العَرَبِيّ: هَل هُوَ العامِلُ الثَّقافِيُّ المُوَحِّدُ من دينٍ وَلُغَةٍ وَتُراثٍ مُشْتَرَك، أَمْ هُوَ العامِلُ الاقْتِصادِيُّ الذي كانَ القُوَّةَ الدّافِعَةَ لِنَجاحِ مَشْروعِ الانْدِماجِ الأوروبِّيّ؟.
العقبات والمعوّقات تبدو هامشيّة في مقابل المصالح الاستراتيجية الحيوية التي يضمنها البناء المغاربيّ الموحّد
وَلاحَظَ البَعْضُ أَنَّ فِكْرَةَ المَغْرِبِ العَرَبيِّ ارْتَبَطَتْ تاريخِيًّا بِالتَّحَدّي الخارِجِيّ، فَتَبَلوَرَتْ في مَرْحَلَةِ التَّحَرُّرِ الوَطَنيِّ في المَهْجَرِ وَفي ساحَةِ التَّعْبِئَةِ النِّضالِيَّةِ الدّاخِلِيَّة، وَجَرى إِحْياؤُها في نِهايَةِ الثَّمانينِيّات، إِثْرَ تَبَدُّلِ النِّظامِ الدَّوْلِيّ، وَقِيامِ كُتْلَةٍ أوروبِّيَّةٍ قَوِيَّةٍ لا يُمْكِنُ لِدُوَلِ المِنْطَقَةِ التَّعامُلُ مَعَها بِصُفوفٍ مُفَكَّكَة، فَضْلًا عَنْ مُعادَلَةِ العَوْلَمَةِ الصّاعِدَةِ التي غَيَّرَتْ نَوْعِيًّا خَريطَةَ العالَمِ الجَديد.
وَاليَوْمَ تُواجِهُ المنطَقَةُ تَحَدِّياتٍ خَطيرَة، تَسْتَهْدِفُ أَمْنَ وَاسْتِقْرارَ وَمَصالِحَ كُلِّ بُلدانِها، نُشيرُ إلى ثَلاثَةٍ من أَهَمِّها هِيَ:
- انْهِيارُ الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّةِ المَرْكَزِيَّةِ في السّاحِلِ الأَفْريقيِّ المُجاوِرِ الذي يَشْهَدُ تَنامِيَ الحَرَكَةِ الإِرْهابِيَّةِ الرّاديكالِيَّة.
- تَصاعُدُ النَّزَعاتِ الشَّعْبَوِيَّةِ القَوْمِيَّةِ في أوروبا بِخِطابِها التَّحْريضيِّ المُناوِئِ لِلهِجْرَةِ وَالتَّعَدُّدِيَّةِ الثَّقافِيَّة.
- تَبَدُّلُ تَوازُناتِ المَنْظومَةِ الدَّوْلِيَّةِ في سِياقِ عَوْدَةِ الحَرْبِ إلى قَلبِ أوروبا وَانْبِثاقِ أَجْواءِ حَرْبٍ بارِدَةٍ تُؤَجِّجُ الصِّراعَ بَيْنَ القُوى الدَّوْلِيَّةِ الفاعِلَة.
في مواجَهَةِ هَذِهِ التَّحَوُّلات، لا بُدَّ مِنِ اسْتِفاقَةِ المَغْرِبِ العَرَبِيّ، مَعَ تَجاوُزِ الخِلافاتِ الظَّرْفِيَّةِ التي تُعيقُ مَسارَ المَشْروعِ الانْدِماجيِّ الإِقْليمِيّ.
لا أَحَدَ يُنْكِرُ - بِطَبيعَةِ الحال - العَقَباتِ وَالمُعَوِّقَاتِ التي تَحولُ دونَ نَجاحِ هَذا المَشْروع، لَكِنَّها تَبْدو هامِشِيَّةً في مُقابِلِ المَصالِحِ الاسْتْراتيجِيَّةِ الحَيَوِيَّةِ التي يَضْمَنُها البِناءُ المَغارِبِيُّ الموحَّد.
التكتل المغربي شرط لبناء قطب سياسي واقتصادي قادر على التفاوض مع الكتل الاقتصادية الجيوسياسية العالمية
في السَّنَواتِ الماضِيَة، جَرَتْ مُحاوَلاتٌ لاسْتِبْدالِ فِكْرَةِ المَغْرِبِ العَرَبيِّ المُوَحَّدِ بِصِيَغٍ أُخْرى عِدَّةٍ فَشِلَتْ كُلُّها؛ مِثْلَ مَشْروعِ اتِّحادِ المُتَوَسِّطِ الذي انْطَلَقَ من مُبادَرَةِ بَرْشَلونَة في التِّسْعينيّاتِ وَبُعِثَ مُجَدَّدًا في عَهْدِ الرَّئيسِ الفَرَنْسيِّ الأَسْبَقِ نيكولا سارْكوزي، وَمَشْروعِ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ الكَبيرِ الذي بَلوَرَتْهُ الإِدارَةُ الأَميرْكِيَّةُ مُنْذُ الرَّئيسِ بوش الأَبِ إلى بوش الابْن، بَل إِنَّ بَعْضَ دُوَلِ المَغْرِبِ العَرَبيِّ طَرَقَتْ بابَ المُنَظَّمَةِ الاقْتِصادِيَّةِ لِغَرْبِ أَفْريقْيا بَحْثًا عَنْ بَدائِلَ عَمَلِيَّةٍ لِلتَّكامُلِ الِاقْتِصاديِّ المَغارِبِيّ.
مَا ظَهَرَ بِوُضوحٍ هُوَ أَنَّ التَّكَتُّلَ المَغْرِبِيَّ شَرْطٌ لا مَحيدَ عَنْهُ لِبِناءِ قُطْبٍ سِياسيٍّ وَاقْتِصادِيٍّ قادِرٍ على التَّفاوُضِ النّاجِعِ مَعَ الكُتَلِ الاقْتِصادِيَّةِ الجِيوسِيّاسِيَّةِ العالَمِيَّة. كَمَا أَنَّ وَحْدَةَ بُلدانِ شَمالِ أَفْريقْيا ضَرورَةٌ قُصْوى لِانْتِشالِ منطَقَةِ السّاحِلِ وَغَرْبِ أَفْريقْيا مِنَ الضَّياعِ وَالتَّفَكُّك.
لا سَبيلَ لِلفَصْلِ بَيْنَ زَوايا المِحْوَرِ الاسْتْراتيجيِّ الثُّلاثيِّ المُتَشَكِّلِ من غَرْبِ أوروبا، وَشَمالِ أَفْريقْيا، وَمِنْطَقَةِ السّاحِلِ الأَفْريقِيّ. وَدُوَلُ المَغْرِبِ العَرَبيِّ هِيَ الجِسْرُ الحَيَوِيُّ الرّابِطُ بَيْنَ المُكَوِّناتِ الثَّلاثَة.
كانَ المَلِكُ المَغْرِبِيُّ الرّاحِلُ الحَسَنُ الثّانِي يَقول: "إِنَّ مَصالِحَنا مَعَ أوروبا، وَجُذورَنا في أَفْريقْيا، وَعُمْقَنا في الشَّرْقِ الأَوْسَط". وَهَذا الحُكْمُ يَصْلُحُ لِكُلِّ بُلدانِ المَغْرِبِ العَرَبِيّ. وَمن ثَمَّ يَظْهَرُ أَنَّ إِحْياءَ المَشْروعِ المَغارِبيِّ هُوَ في حَقيقَتِهِ ضَرورَةٌ لِلعالَمَيْنِ العَرَبيِّ وَالأَفْريقِيّ، وَمن وَرائِهِما أوروبا الغَرْبِيَّة.
(خاص "عروبة 22")

