اقتصاد ومال

كلفَةُ النِّزاعاتِ والحُروبِ في العالَمِ العَرَبيّ!فاتورَةٌ اقتِصادِيَّةٌ وَبَشَرِيَّةٌ ثَقيلَةٌ وَأُفُقٌ تَكامُلِيٌّ مَفْقود

لَقَدْ تَحَوَّلَتِ الحُروبُ والنِّزاعاتُ في العالَمِ العَرَبيِّ خِلالَ العُقودِ الأَخيرَةِ إلى عِبْءٍ هائِلٍ يُثْقِلُ كاهِلَ الشُّعوبِ والدُّوَلِ على حَدٍّ سَواء، لَيْسَ فَقَطْ مِنْ حَيْثُ الخَسائِرِ البَشَرِيَّة، بَل أَيْضًا على مُسْتَوى تَدْميرِ البُنى التَّحْتِيَّة، وَتَراجُعِ الأَداءِ الِاقْتِصادِيّ، وانْكِماشِ النُّمُوّ، وَهِجْرَةِ الكَفاءات، وَتَرَدّي جَوْدَةِ الحَياةِ بِشَكْلٍ شامِل. وَفي هَذا السِّياق، يُصْبِحُ مِنَ المُسْتَحيلِ قِراءَةُ المَشْهَدِ العَرَبيِّ الرّاهِنِ بِمَعْزِلٍ عَنْ آثارِ هَذِهِ الصِّراعات، وَلا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ أَيِّ مَسارٍ تَنْمَويٍّ مِنْ دونِ إِدْراكِ الفاتورَةِ الثَّقيلَةِ التي حَمَلَتْها دُوَلٌ بِأَكْمَلِها نَتيجَةَ الحُروب، مُقابِلَ غِيابِ آلِيّاتٍ عَرَبِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ لِلإِعْمارِ وَتَمْويلِ التَّنْمِيَة.

كلفَةُ النِّزاعاتِ والحُروبِ في العالَمِ العَرَبيّ!
فاتورَةٌ اقتِصادِيَّةٌ وَبَشَرِيَّةٌ ثَقيلَةٌ وَأُفُقٌ تَكامُلِيٌّ مَفْقود

تُظْهِرُ التَّقْديراتُ الدَّوْلِيَّةُ والأَبْحاثُ الاقْتِصادِيَّةُ أَنَّ الحُروبَ في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّةِ تُكَبِّدُ اقْتِصاداتِها خَسائِرَ جَسيمَةً بِفِعْلِ تَدْميرِ رَأْسِ المال، وانْهِيارِ البُنى التَّحْتِيَّة، وَتَراجُعِ الإِنْتاجِ المَحَلِّيّ، وانْكِماشِ الِاسْتِثْمار. فَفي سورْيا وَحْدَها، تُقَدَّرُ فاتورَةُ إِعادَةِ الإِعْمارِ بِحَوالَيْ 216 مِليارَ دولار، وَهُوَ رَقْمٌ يُقارِبُ عَشَرَةَ أَضْعافِ النّاتِجِ المَحَلّيِّ لِلبِلاد، فيما يَعيشُ أَكْثَرُ مِنْ 90% مِنَ السُّكّانِ في فَقْرٍ شَديدٍ بَعْدَ سَنَواتٍ مِنَ الصِّراعِ الطَّوِيلِ. وَفي لُبْنانَ، وَبَعْدَ حَرْبٍ امْتَدَّتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرا، تُواجِهُ البِلادُ تَكْلِفَةً مُباشِرَةً وَغَيْرَ مُباشِرَةٍ تُقَدَّرُ بِنَحْوِ 14 مِليارَ دولارٍ تَشْمَلُ أَضْرارًا مادِّيَّة، وَتَراجُعَ الإِنْتاج، وانْكِماشَ الاسْتِثْمار، وَتَأَثُّرَ مُؤَسَّساتِ الدَّوْلَةِ المُخْتَلِفَة. وَعلى نِطاقٍ أَوْسَع، أَشارَتْ تَقاريرُ "البَنْكِ الدَّوْليِّ" إلى أَنَّ تَكْلِفَةَ الحُروبِ في الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ مُنْذُ عامِ 2010 وَحَتّى نِهايَةِ عَقْدٍ واحِدٍ بَلَغَتْ نَحْوَ 900 مِليارَ دولارٍ مِنَ الدَّمارِ المُباشِرِ والفُرَصِ الضّائِعَةِ لِلنُّمُوّ.

وَلا تَقْتَصِرُ هَذِهِ الأَرْقامُ على تَكْلِفَةِ إِعادَةِ الإِعْمارِ المُباشِرَة، بَل تَشْمَلُ الخَسائِرَ الاقْتِصادِيَّةَ الشّامِلَة، مِنْ فُرَصِ نُمُوٍّ ضائِعَة، وانْكِماشٍ اسْتِثْمارِيّ، وَتَكاليفِ الخِدْماتِ الاجْتِماعِيَّةِ والصِّحِّيَّةِ والتَّعْليمِيَّةِ التي تَعَطَّلَتْ أَوْ تَدَهْوَرَتْ بِشَكْلٍ كامِلٍ خِلالَ فَتَراتِ النِّزاع. إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الخَسائِرِ الضَّخْمَةِ تُؤَثِّرُ مُباشَرَةً على قُدْرَةِ الدُّوَلِ المُتَضَرِّرَةِ على تَمْويلِ مَشاريعِها التَّنْمَوِيَّةِ حَتّى بَعْدَ تَوَقُّفِ الحَرْب، إِذْ تَجِدُ نَفْسَها في حالَةِ اخْتِلالٍ ماليٍّ وَهَيْكَلٍ اقْتِصاديٍّ مُهْتَزّ، مَعَ تَراجُعٍ حادٍّ في مَوارِدِها الدّاخِلِيَّةِ وَعَجْزٍ مُتَزايِدٍ في المُوازَناتِ العامَّة.

أُسُس أي عملية تكامل تنهار أمام واقع الدول المدمّرة اقتصاديًا

وَفي هَذا الصَّدَد، تَجْدُرُ الإِشارَةُ إلى أَنَّ تَكْلِفَةَ الحُروبِ لا تُقاسُ بِالأَرْقامِ النَّقْدِيَّةِ فَقَط، فَهِيَ تُحْدِثُ دَمارًا اجْتِماعِيًّا عَميقًا بِقَدْرِ ما تُحْدِثُهُ مِنْ دَمارٍ مادِّيّ. فَإِلَى جانِبِ آلافِ القَتْلى والجَرْحى والمَعْطوبين، أَدَّتِ النِّزاعاتُ إلى نُزوحِ وَهِجْرَةِ المَلايين.

فَفي سورْيا، نَزَحَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ السُّكّانِ داخِلِيًّا أَوْ عَبَروا الحُدودَ إلى دُوَلِ الجِوار، ما فاقَمَ العِبْءَ على اقْتِصاداتِ تِلكَ الدولِ المُضيفَةِ وَأَدّى إلى فُقْدانِ كَفاءاتٍ وَطَنِيَّةٍ كانَتْ تُشَكِّلُ نُواةَ عَمَلِيَّةِ التَّنْمِيَةِ قَبْلَ الحَرْب.

وَفي العِراقِ، أَدَّتْ سَنَواتُ الحَرْبِ الطَّويلَةُ بَعْدَ عامِ 2003 إلى فَقْدانِ قِطاعٍ واسِعٍ مِنَ المَهاراتِ العِلمِيَّةِ والطِّبِّيَّةِ والهَنْدَسِيَّة، ما انْعَكَسَ سَلبًا على قُدْرَةِ الدَّوْلَةِ على إِعادَةِ بِناءِ مُؤَسَّساتِها، وَساهَمَ في هِجْرَةِ الشَّبابِ بَحْثًا عَنِ الأَمْنِ والِاسْتِقْرارِ الوَظِيفي.

أَمّا في اليَمَن، فَقَدْ تَراجَعَ النّاتِجُ المَحَلِّيُّ بِشَكْلٍ كَبيرٍ نَتيجَةَ النِّزاعِ المُسْتَمِرّ، وانْخَفَضَ الإِنْتاجُ والاسْتِثْمارُ الأَجْنَبِيُّ والمَحَلِّيُّ إلى مُسْتَوَياتٍ غَيْرِ مَسْبوقَة.

في ظِلِّ هَذِهِ الخَسائِرِ الضَّخْمَةِ وَغِيابِ السِّلمِ المُسْتَدام، يُصْبِحُ الحَديثُ عَنْ تَكامُلٍ اقْتِصاديٍّ عَرَبيٍّ أَمْرًا شِبْهَ مُسْتَحيل، فَأُسُسُ أَيِّ عَمَلِيَّةِ تَكامُل، مِثْلَ الاسْتِقْرارِ المالِيّ، وَوُجودِ سوقٍ عَرَبِيَّةٍ مُوَحَّدَة، وَتَنْشيطِ التِّجارَةِ البَيْنِيَّة، واسْتِقْرارِ سَلاسِلِ الإِنْتاج، تَنْهارُ أَمامَ واقِعِ الدُّوَلِ المُدَمَّرَةِ اقْتِصادِيًا. فَمِنْ غَيْرِ المُمْكِنِ إِقامَةُ مَنْظومَةٍ اقْتِصادِيَّةٍ مُتَكامِلَةٍ بَيْنَ دُوَلٍ تَنْهارُ بُنْيَتُها التَّحْتِيَّة، وأُخْرى تُعاني شَلَلًا مَصْرِفِيّا، وَثالِثَةٍ تُصارِعُ مِنْ أَجْلِ البَقاءِ المالِيّ. وَيَبْرُزُ هَذا الواقِعُ بِشَكْلٍ جَلِيٍّ في ضَعْفِ الآلِيّاتِ التَّمْويلِيَّةِ العَرَبِيَّةِ المُشْتَرَكَة، إِذِ اقْتَصَرَتِ المُبادَراتُ غالِبًا على جُهودٍ فَرْدِيَّةٍ أَوْ شَراكاتٍ مَحْدودَةِ التَّأْثير، بَيْنَما لَمْ تَتَمَكَّنْ جامِعَةُ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ مِنْ إِطْلاقِ أُطُرٍ تَمْويلِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ كُبْرى لِدَعْمِ الاسْتِثْمارِ وَإِعادَةِ الإِعْمار.

مِنْ نَقْدِ الواقِعِ إلى تَصَوُّرِ بَديل: مَشْروعُ مارْشالٍ عَرَبِيّ

الدُّروسُ المُسْتَخْلَصَةُ مِنْ تَجارِبِ الحُروبِ في العالَمِ العَرَبيِّ تُؤَكِّدُ أَنَّ التَّنْمِيَةَ لا تُبْنى بِالحَرْب، وَأَنَّ السَّلامَ هُوَ أَساسُ أَيِّ نَهْضَةٍ اقْتِصادِيَّة. لِذَلِكَ، تَظْهَرُ الحاجَةُ الماسَّةُ إلى مَشْروعٍ عَرَبيٍّ طَموحٍ يُشْبِهُ مَشْروعَ مارْشالٍ بَعْدَ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثّانِيَة، يَهْدِفُ إلى إِعادَةِ بِناءِ اقْتِصاداتِ المِنْطَقَة، وَيَقومُ على صَناديقَ سِيادِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ لِدَعْمِ الاسْتِثْمارِ في البُنى التَّحْتِيَّة، وَتَوْسيعِ القاعِدَةِ الإِنْتاجِيَّة، وَتَمْويلِ المَشاريعِ التَّنْمَوِيَّةِ الكُبْرى، وَتَحْفيزِ التَّكامُلِ الاقْتِصادِيّ.

الحاجة مُلِحّة للاستثمار في البشر وتعزيز البنى التحتية وبناء مؤسسات مالية عربية قوية والتعاون بدل التناحر

وَيَجِبُ أَنْ يَرْتَكِزَ المَشْروعُ على أُطُرٍ مُؤَسَّسِيَّةٍ قَوِيَّةٍ تَشْمَلُ دَوْرًا فَعّالًا لِجامِعَةِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّة، وَشَراكاتٍ مَعَ القِطاعِ الخاصِّ العَرَبِيّ، وابْتِكارَ تِقْنِيّاتِ تَمْويلٍ تَجْمَعُ بَيْنَ السُّيولَةِ العَرَبِيَّةِ والإِمْكاناتِ الدَّوْلِيَّة، مَعَ ضَمانِ الشَّفافِيَّةِ وَمُحارَبَةِ الفَساد. والغايَةُ الأَساسِيَّةُ هِيَ خَلقُ سوقٍ عَرَبِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ قادِرَةٍ على جَذْبِ الاسْتِثْمار، وَتَحْريرِ القُوى العامِلَة، وَتَطْويرِ قِطاعاتٍ اسْتْراتيجِيَّةٍ مِثْلَ الصِّناعَة، والنَّقْل، والطَّاقَةِ المُتَجَدِّدَة، والتَّعْليم، والصِّحَّة.

لَقَدْ تَرَكَتِ الحُروبُ في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّةِ نُدوبًا عَميقَةً لا تُمْحى بِالأَرْقامِ أَوِ الأَوْراقِ الِاقْتِصادِيَّة. وَمِنْ هُنا، تَصْبِحُ الحاجَةُ مُلِحَّةً لِإِعادَةِ تَرْتيبِ الأَوْلَوِيّات: الاسْتِثْمارُ في البَشَر، تَعْزيزُ البُنى التَّحْتِيَّة، دَعْمُ الشّبابِ والكَفاءات، بِناءُ مُؤَسَّساتٍ مالِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ قَوِيَّة، والتَّعاوُنُ بَدَلَ التَّناحُر. فَلا يُمْكِنُ الرُّكونُ إلى المُؤَسَّساتِ المالِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ كَخِيارٍ وَحيد، خُصوصًا في ضَوْءِ شُروطِها التي غالِبًا ما تُفاقِمُ الضُّغوطَ الاجْتِماعِيَّةَ في الدُّوَلِ المُتَضَرِّرَة.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن