وجهات نظر

أُسس النظام العربي الراهن (3/2)صعود القومية العربية

قبل انتصاف القرن العشرين كان العالم العربي يشهد بروز جيل جديد من المتعلّمين الذين استفادوا من توسع التعليم الرسمي المجاني الذي امتّد إلى المدن البعيدة والقرى والأرياف، وكان هذا الجيل بأغلبيته ينتمي إلى الطبقات الوسطى وأبناء الحرفيين والريفيين.

أُسس النظام العربي الراهن (3/2)
صعود القومية العربية

كان التعليم آنذاك الوسيلة للترقي الاجتماعي، إن على طريق الحصول على الوظيفة الرسمية أو الانتساب إلى السلك العسكري بعد الحصول على شهادة الثانوية التي تخوّل حامليها الدخول إلى التعليم الجامعي في كليات الحقوق أو الطب، لكن أبناء الطبقات المحدودة الدخل في المدن والأرياف كانت تستعجل الحصول على وظيفة المدرّس في وقت كان التعليم لا زال يتوسّع. وكان طلّاب المدارس الثانوية وأساتذتهم الأكثر إصغاءً للنداءات والشعارات التي تطرحها الأحزاب العقائدية على اختلاف دعواتها، من الدعوة إلى الوحدة العربية إلى تلك التي تدعو إلى وحدة سوريا والهلال الخصيب إلى تلك التي تدعو إلى وحدة الطبقة العاملة في وجه الطبقات الحاكمة الرأسمالية والإقطاعية.

المزاج العالمي كان عسكريًا بعد الحرب العالمية الأولى

وكانت نكبة فلسطين عام 1948، وهزيمة الأنظمة العربية أمام العصابات الصهيونية، قد زادت من النقمة على الحكّام في مصر وسوريا والأردن والعراق، إلاّ أنّ قادة الأحزاب آنذاك ما كانوا مؤهلين ولا يملكون الإمكانيات لاستلام السلطة، فتصدّى الجيش للمهمّة التغييرية.

وإذا ما استعدنا ظروف نهاية الخمسينات يمكننا أن نقدّر الثقة التي يوليها عامة الناس للقوات المسلحة باعتبارها المؤسسة التي تدافع عن الوطن، والتي لم يطالها الفساد أو التلوّث والتي كانت ضحية للسياسيين الذين لم يحسنوا تسليحها لخوض المعركة في فلسطين، نضيف إلى ذلك أنّ المزاج العالمي كان عسكريًا بعد الحرب العالمية الأولى، فبرز اسم الجنرال ديغول كمنقذ لفرنسا، وانتخب الجنرال ايزنهاور (قائد قوات الحلفاء) رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، وتزيّا كل من ستالين وماوتسي تونغ بما يشبه الزيّ العسكري.

كان الانقلاب الأول بعد النكبة قد حدث في سوريا، على يدي قائد الجيش حسني الزعيم عام 1949، الذي أطاح بالحكومة المنتخبة، ليطيح به بعد خمسة أشهر ضابط آخر هو سامي الحناوي الذي لم يمكث في السلطة سوى أشهر قليلة لينقلب عليه ضابط آخر هو أديب الشيشكلي. وهكذا شهدت سوريا في سنة واحدة ثلاثة انقلابات عسكرية. وقد استمرّ حكم الشيشكلي حتى عام 1954، وكان من بين قرارته التي تشير إلى طبيعة الأنظمة العسكرية إلغاء الأحزاب، وتسليح الجيش وتنفيذ بعض المشاريع الإنمائية، إلا أنه تخلى عن السلطة وهرب إلى بيروت بعد أن شعر بتعاظم المعارضة. إلا أنّ تخلّي الشيشكلي عن السلطة كان سابقة فريدة. فلم يتخلَ عن الحكم عسكري وصل إليها من خلال الانقلاب.

الانقلاب العسكري الآخر الذي كانت واحدة من أسبابه الهزيمة العسكرية في فلسطين هو انقلاب الضباط الأحرار في مصر الذي عُرف لاحقًا باسم ثورة يوليو، كانت دوافع الانقلاب عديدة، إلا أنّ جمال عبد الناصر يذكر في كتابه، فلسفة الثورة، مشاعره وأفكاره حين كان محاصرًا في الفالوجة (فلسطين). وأحد الأسباب التي دفعت إلى خلع الملك هو ما قيل عن صفقة السلاح الفاسد التي زُوّد بها الجيش المصري. أصبحت القضية الفلسطينية في قلب السياسة الناصرية بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقد بنيت زعامة عبد الناصر على إيمان العرب بأنّ معركة تحرير فلسطين قادمة على أيدي القيادة الناصرية.

نشأ ترابط وثيق بين القضية الفلسطينية والقومية العربية والجيوش العربية

ولم يقتصر تشكيل الضباط الأحرار على مصر، فبعد عودة الجيش العراقي من فلسطين أسّس بعض الضباط تنظيمًا سريًا داخل الجيش تحت اسم الضباط الأحرار استطاعوا أن يقبضوا على السلطة ويسقطوا النظام الملكي الهاشمي عام 1958. كذلك الأمر فقد تكوّن تنظيم للضباط الأحرار في الأردن، إلا أنّ حركتهم الانقلابية فشلت عام 1957.

وعلى هذا النحو نشأ الترابط الوثيق بين القضية الفلسطينية وبين القومية العربية، وقد أصبح حجر الأساس فيها تحرير فلسطين، وبين الجيوش العربية. وقد جاءت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 نتيجة لهذا الترابط بين الوحدة القومية وتحرير فلسطين عن طريق الجيوش العربية.

الأنظمة التي هي نتاج انقلاب عسكري تتشابه لجهة سيطرة أجهزة الأمن على الحياة العامة وإلغاء الحياة السياسية

إنّ إخفاق الوحدة السورية - المصرية على يد ضباط الجيش السوري، لم يؤدِ إلى فك الترابط بين أطراف المثلث، فقد عرفت الستينات من القرن العشرين سلسلة من الانقلابات في سوريا والعراق واليمن والجزائر وآخرها في السودان واليمن. وجميعها تحت شعارات الوحدة والتحرير.

وبالرغم من أنّ القومية العربية قد انشطرت إلى تيارين: الناصرية والبعثية. لينشطر البعث إلى قُطري وقومي، إلا أنّ جميع الأنظمة التي هي نتاج الانقلاب العسكري تتشابه لجهة سيطرة أجهزة الأمن على الحياة العامة وإلغاء الحياة السياسية عبر حلّ جميع الأحزاب، وقيادة البلاد عبر الحزب الواحد، وتبنّي سياسات الإصلاح الزراعي وتأميم التجارة والصناعة التي كانت أقرب إلى سياسات المصادرة ووضع اليد. وكانت السياسة الخارجية للأنظمة العسكرية تتمثل بالتحالف مع الاتحاد السوڤياتي واعتماد سياسة تسلّح لم تجدِ لا قبل حزيران 1967 ولا بعدها. لكن هزيمة حزيران أدت إلى انفراط المثلث، إذ اعتُبرت هزيمة للقومية العربية، أما فلسطين فأصبحت قضية تخّص الفلسطينيين ومقاومتهم. ومع ذلك فإنّ الأنظمة ذات الأصول العسكرية صمدت وازدادت تصلّبًا.


لقراءة الجزء الأول: أُسُس النظام العربي الراهن (3/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن