على الرَّغمِ من أَهَمِّيَّةِ كُلِّ ما أُلقيَ من أَوْراقٍ وجَرى من مُناقَشات، رَأَيْتُ أنْ أُطْلِعَ قارِئَ مَوْقِعِ "عروبة 22" على مَضْمونِ وَرَقَتي بالذَّات، نَظَرًا لِظُروفِ المِساحَة، ولأنَّني كَتَبْتُها تَحْتَ العُنْوانِ الجامِعِ للمُؤْتَمَر، بِما يُلْقي ضَوْءًا ولوْ خافِتًا على تِلْكَ المَفاهيمِ الكُبْرى التي تَتشكَّلُ حَوْلَها الحَياةُ الحَديثَة: الهُوِيَّةِ والمُواطَنَةِ والدَّولة، والتي قد تَبْدو للوَهْلَةِ الأولى بَديهِيَّاتٍ مُسْتَقِرَّة، غَيْرَ أنَّ حُضورَها الكَثيفَ في الخِطابِ العامِّ يَكْشِفُ هَشاشَتَها أَكْثَرَ ممَّا يَدُلُّ على ثَباتِها. فهذهِ المَفاهيمُ لا تَنْتَمي إلى الحَقْلِ النَّظَريِّ وَحْدَه، بلْ تَتَشَكَّلُ يَوْمِيًّا في تَوَتُّرٍ دائِمٍ بَيْنَ الواقِعِ وتَطلُّعاتِه، وبَيْنَ ما تَفْرِضُهُ التَّحوُّلاتُ الاجْتِماعِيَّةُ وما تَحتفِظُ بهِ الذّاكِرَةُ من تَصَوُّراتٍ جُزْئِيَّةٍ أو مُتَخَيَّلَة. وفي السِّياقِ العَرَبيِّ على وَجْهِ الخُصوص، تَتَحوَّلُ هَذِهِ المَفاهيمُ إلى مِرْآةٍ لِأَسْئِلةٍ أَعْمَق: حُدودِ الذّاتِ الجَماعِيَّة، طَبيعَةِ السُّلْطَة، ومَوْقِعِ الإنْسانِ بَيْنَهُما.
لا يَكْمُنُ الإشْكالُ في ازْدِحامِ التَّعْريفاتِ أو تَضارُبِ التَّأْويلاتِ بِقَدْرِ ما يَكْمُنُ في أنَّ هذهِ المَفاهيمَ كَثيرًا ما تُسْتَعادُ كَقَوالِبَ جاهِزَة، تُحَمَّلُ بِعِبْءِ الماضي أو تُسْقَطُ عَلَيْها تَوَقُّعاتُ الحاضِر، من غَيْرِ أن تُفكَّكَ بُنْيَتُها العَميقَةُ أو يُفهَمَ تاريخُ تَشَكُّلِها. فالمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ في تَعْريفِ الهُوِيَّةِ أو المُواطَنَةِ أو الدَّوْلَة، بلْ في الكَيْفيَّةِ التي تُسْتَعْمَلُ بِها هذهِ المَفاهيمُ لِتَوْجيهِ الوَعْيِ العامِّ وصِياغَةِ المَجالِ السِّياسيِّ وتَحْديدِ مَلامِحِ الاجْتِماعِ البَشَرِيّ. ومِن ثَمَّ يُصْبِحُ الاقْتِرابُ مِنْها عَمَلًا في نَقْدِ العَقْلِ السِّياسيِّ ذاتِه، قَبْلَ أن يَكونَ تَنْظيرًا لِمَفْهومٍ أو دِفاعًا عن آخَر.
لا يمكن تشكيل الدولة الوطنية الجامعة من دون أساس علماني
والحَقيقَةُ أنَّ المَفاهيمَ الثَّلاثَةَ في عُنْوانِ الوَرَقَةِ والمُؤْتَمَرِ مُتَشابِكَةٌ لأَبْعَدِ حَدّ، تَشْتَرِكُ جَميعُها في الهَدَفِ النِّهائِيّ، وهو تَحْريرُ الإنْسانِ كَفَرْدٍ من قَبْضَةِ أَنْساقِ القَهْرِ الواقِعِ عَلَيْه، سَواءٌ من التَّقاليدِ أو من السُّلْطَة. وأيضًا تَحْريرُ مُجْتَمعاتِنا من قَبْضَةِ التَّعَصُّبِ وكَراهِيَّةِ الآخَرِ المُخْتَلِف، سَواءٌ كانَ الاخْتِلافُ مَذْهَبِيًّا وطائِفِيًّا وعِرْقِيًّا داخِلَ الدَّوْلَةِ نَفْسِها، أو كانَ سِياسِيًّا وحَضارِيًّا مع العالَمِ الخارِجِيّ. وقد ذَهَبْتُ إلى أنَّ الحَلَّ الخَلَّاقَ لِلإشْكالِيَّاتِ النَّاجِمَةِ عنِ المَفاهيمِ الثَّلاثَةِ يَكْمُنُ في مَفْهومٍ رابِعٍ هو العَلْمانِيَّة؛ حَيْثُ التَّفْكيرُ العَلْمانِيُّ في الحَقيقَةِ بِما هي نِسْبِيَّةٌ ولَيْسَتْ مُطْلَقَة، هوَ الطَّريقُ الأَمْثَلُ لِمُرونَةٍ فِكْرِيَّةٍ تَبْدو ضَرورِيَّةً لِصِياغَةِ تِلْكَ المَفاهيمِ صِياغَةً خَلَّاقَةً وإيجابِيَّةً ومُتَفَتِّحة.
فعلى سَبيلِ المِثال، لا يُمْكِنُ البَحْثُ عنِ المُواطَنَةِ خارِجَ دَوْلَةٍ مَدَنِيَّةٍ عَلْمانِيَّةٍ إلَّا على سَبيلِ التَّوَهُّم، ولا صِياغَةُ هُوِيَّةٍ مُتَفَتِّحَةٍ تَقْبَلُ بِالآخَرِ من دونِ إيمانٍ عَميقٍ بِنِسْبِيَّةِ الحَقيقَةِ إلَّا على سَبيلِ العَبَث، ولا تَشْكيلُ الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّةِ الجامِعَةِ من دونِ أَساسٍ عَلْمانِيّ، على قاعِدَةِ عَقْدٍ اجْتِماعِيّ، إلَّا على سَبيلِ التَّمَنّي. حَقًّا، وُجِدَتِ الدَّوْلَةُ قَبْلَ بُروزِ مَفْهومِ العَلْمانِيَّةِ بِآلافِ السِّنين، لَكِنَّها الدَّوْلَةُ التَّقْليدِيَّة: سَواءٌ الوِلايَة، الإمارَة الصَّغيرَة، أو الخِلافَةُ الواسِعَةُ والإمْبَراطورِيَّةُ الكُبْرى؛ فالجَامِعُ بَيْنَ كُلِّ تِلْكَ الأَشْكالِ التَّاريخِيَّةِ هو غِيابُ مَفْهومِ الإنْسانِ - المُواطِن، وحُضورُ مَفْهومِ الإنْسانِ - الرَّعِيَّة. فالمُواطِنُ الحُرُّ لم يَكُنْ لِيوجَدَ إلَّا في الدَّوْلَةِ الحَديثَةِ / العَلْمانِيَّة، دَوْلَةِ الحَقِّ والقانون، فيما كانَ إنْسانُ الدَّوْلَةِ التَّقْليدِيَّةِ / السُّلْطانِيَّةِ مُجَرَّدَ رَعِيَّةٍ لِسُلْطَةٍ مُتَعالِيَةٍ / مُقَدَّسَة، بلْ إنَّهُ كَثيرًا ما كانَ عَبْدًا تَقْليدِيًّا / عَبْدَ رَقَبَة، أو قِنّا، أي عَبْدًا لِلأرضِ كَحالِ الإقْطاعِ الأوروبيِّ القُروسطوِيّ.
العلمانية التي ندعو إلى تأسيسها هي العلمانية السياسية وليس العلمانية التي تقضي بعلمنة الأخلاق والقيم
العَلْمانِيَّة، إذَنْ، هي قاعِدَةُ الانْطِلاقِ نَحْوَ الصِّياغاتِ الخَلَّاقَةِ والإيجابِيَّةِ لِلمَفاهيمِ الثَّلاثَة، لَكِنْ معَ اخْتِلافٍ في مُسْتَوى العَلاقَةِ بَيْنَها وبَيْنَ كُلٍّ مِنْها. فالصِّلةُ بَيْنَ العَلْمانِيَّةِ والهُوِيَّةِ هي الأَقَلُّ مُباشَرَة؛ إذْ تَمُرُّ عَبْرَ وَسيطٍ هو التَّسامُح؛ فالأَخيرُ هو السُّلوكُ الخَلَّاقُ الذي لا يَصْدُرُ إلّا عن هُوِيَّةٍ مُنْفتِحَة، كما أنَّ التَّعَصُّبَ هو الفِعْلُ السَّلْبِيُّ الذي يَصْدُرُ بالضَّرورَةِ عن هُوِيَّةٍ مُنْغَلِقَة. أمَّا الصِّلَةُ بينَ المُواطَنَةِ والعَلْمانِيَّةِ فمُباشِرَة؛ إذْ لا يُوجَدُ مُواطِنٌ حُرٌّ سِوى في دَوْلَةٍ عَلْمانِيَّة، تَتأسَّسُ على حِيادِ القانونِ التَّامِّ والمُساواةِ الأَخْلاقِيَّةِ الكامِلَة، تَقِفُ على مَسافَةٍ واحِدَةٍ من عُمومِ مُواطِنيها، على اخْتِلافِ مَذاهِبِهِم وطَوائِفِهِم وأَدْيانِهِم وأَعْراقِهِم.
وأَخيرًا، تَأْتي العَلاقَةُ بَيْنَ الدَّوْلَةِ الوَطَنِيَّةِ والعَلْمانِيَّةِ في مُسْتَوى الماهِيَّة؛ فمَفْهومُ الدَّوْلَةِ في الحِقْبَةِ الحَديثَةِ لا يَعْني سِوى الدَّوْلَةِ القَوْمِيَّةِ - العَلْمانِيَّة، فيما انْزاحَتْ كُلُّ أَشْكالِ الدَّوْلَةِ التَّقليدِيَّة: السُّلْطانِيَّة، والدّينِيَّة، والطَّائِفِيَّة، إلى حَيِّزِ السَّلْبِ التّاريخِيّ. والذي لا شَكَّ فيهِ أنَّ العَلْمانِيَّةَ التي نَقْصِدُها ونَدْعو إلى تَأْسيسِها إنَّما هي العَلْمانِيَّةُ السِّياسِيَّة، أي عَلْمانيَّةُ الحَدِّ الأَدْنى، التي تَقْضي بِعَلْمَنَةِ السُّلْطَةِ فَقَط، ولَيْسَ العَلْمانِيَّةَ الوُجودِيَّة، أي عَلْمانيَّةَ الحَدِّ الأَقْصى، التي تَقْضي بِعَلْمَنَةِ الأَخْلاقِ والقِيَمِ معَ السُّلْطَة، ومِن ثَمَّ تَتصادَمُ معَ الرُّؤْيَةِ الرّوحِيَّةِ لِلوُجود.
(خاص "عروبة 22")

