وجهات نظر

دعوة للإصلاح الديني دون عصر إصلاح عربي!

بلغ الفكّر النهضوي العربي نقطة ذروة مع الإمام محمد عبده في دعوته التي قدّمها، نهاية القرن التاسع عشر، إلى إصلاح التديّن الإسلامي عبر تجديد رسالة التوحيد وبعث المفاهيم الثورية الكامنة في النصّ القرآني حول الإلوهية والنبوة والإنسانية، تلك التي جرى طمسها تحت ركام الاستبداد والقهر، ويكفي استدعاؤها لتوفير ممكنات أصيلة للحرية الإنسانية تدعم جهود المسلم في مواجهة السياقات المجتمعية والسياسية التي أمعنت في قهره باسم التراث.

دعوة للإصلاح الديني دون عصر إصلاح عربي!

ربما كانت دعوة الإمام إلى الإصلاح الإسلامي، مطلع القرن العشرين، أكثر عمقًا من دعوة مارتن لوثر إلى الإصلاح المسيحي مطلع القرن السادس عشر. ورغم ذلك فقد أثمرت دعوة لوثر على يد من جاءوا بعده، إذ سرعان ما تحوّلت الدعوة إلى حركة بروتستانتية، ثم إلى تجربة تاريخية جرى وسمها بعصر الإصلاح. كما أنتج الحلم اللوثري البسيط في قهر البابوية دولًا قومية علمانية، تحرّرت من الكهنوت الديني، وتغذّت من أفكار فلاسفة العقد الاجتماعي توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك وروسو، التي نزعت عن السلطة قدسية الحق الإلهي، وأسّست لشرعيتها في مجرد تعاقد دنيوي بين بشر متكافئين، بدافع مصلحي هو الخروج من حالة الطبيعة الهمجية إلى أفق مجتمع متمدين، يلتصق أعضاؤه معًا بصمغ الإرادة الحرة، التي يحرسها القانون العادل بدلًا من صمغ القوة العارية التي يمارسها بشر همجيون.

انبثق من رحم الفكر النهضوي تيار سلفي ينزع إلى رفض الحداثة بزعم الحفاظ على الأصالة

في المقابل، انتكست دعوة الإمام المسلم، بفعل الجمود المهيمن على السياق التاريخي العربي، فما إن وصل الفكر النهضوي العربي إلى ذروته المنهجية بنهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حتى انبثق من رحمه وقام في مواجهته تيار سلفي يعلي من قيمة الهوية على العقلانية، وينزع إلى رفض الحداثة بزعم الحفاظ على الأصالة.

وبرحيل الإمام نفسه (1905) انقسم فكره الإصلاحي إلى تيارين رئيسيين:

الاتجاه الأول؛ كان بمثابة استمرار طبيعي له، اقترب من مفهوم العلمانية السياسية وإن لم يصرّح به لفظًا، عبر نفي مقولات الخلافة الدينية. إنه الطريق الذي سار فيه الشيخ علي عبد الرازق في كتابه التأسيسي "الإسلام وأصول الحكم" حينما دعا إلى تأسيس السلطة على قاعدة الإرادة العامة، على نحو ينزع منها ادعاءات القداسة، حيث وصل بجرأة استدلاله، واستعراضه لتاريخ الخلافة، إلى تقرير أنها مجرد عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إمامًا للأمة بعد التشاور فيما بينهم، نيابة عن جموع الأمة، بما يكفل مصلحتها، ما يعني أصلها البشري ومرجعيتها الدنيوية. وقد تبعه على الطريق نفسه رموز من قبيل أحمد لطفي السيد وسعد زغلول والعقاد.

وأما الاتجاه الثاني؛ فكان بمثابة انقلاب عليه، إذ أساء تأويل فكر الإمام، ودافع عن مركزية مفهوم الخلافة، الأمر الذي أفضى إلى هزيمة مشروعه الإصلاحي، وانبثاق ظاهرة الإسلام السياسي فالجهادي، وهو ما حدث عبر حلقتين متتابعتين:

في الأولى أعاد محمد رشيد رضا تأويل الإمام على نحو سلفي قضى على جرعته العقلانية ومبدئه (التنويري) القائل بأولوية العقل على النص، وأمعن في الحديث عن الخلافة الدينية والجامعة الإسلامية.

أخذت الجغرافيا العربية تواجه عواصف رياح عكسية، تهبّ من قلب إسلام سياسي ظلامي يرفض التسامح

وفي الثانية قام حسن البنا، تلميذ رضا، بتحويل سلفيته العلمية إلى سلفية حركية، بإنشاء جماعة دينية تصوّرها تربوية، أو روَّج لكونها كذلك، وهي إما سياسية منذ المبتدأ أو أنها استحالت كذلك بحسب طبيعة الأشياء، كونها جماعة مغلقة تقوم على تميّز نفسها في مواجهة الآخرين، ومن ثم على ثنائية (الذات - العالم)، حيث لا تتبلور هوية الجماعة إلا في مواجهة الآخرين من عموم المصريين/ المسلمين، بحسب المنطق الأرسطي، المحكوم بمبدأ عدم التناقض الذاتي، فما دمت أنا أنا، وما دمت أنت أنت، فلن يكون الأنا هو أنت، ولن تكون أنت هو الأنا، فأنا أنا في مواجهتك، وأنت كذلك في مواجهتي.

ومن ثم جرى التدشين الحركي لإسلام سياسي (حزبي) يدّعي مركزية الدولة في الشريعة، سرعان ما بلغ ذروته مع سيد قطب وأبو الأعلى المودودي في دعوتهما إلى "الحاكمية" التي أشعلت لهيب الظاهرة الجهادية. ومن ثمّ أخذت الجغرافيا العربية التي قام بنحتها إسلام حضاري متمدّن عبر قرون النهضة الأولى، تواجه عواصف رياح عكسية، تهب من قلب إسلام سياسي/ ظلامي يرفض التسامح مع الأديان الأخرى، بل يتقاتل أربابه مع أنفسهم حول المذهب والطائفة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن