بصمات

بين "هانوي" ومتحف التصميم العربي

ليست تفصيلًا عاديًا إعادة قراءة كتاب الحرب في القرن العشرين وتداعياتها وسياقاتها، وإستعادة ذاكرة ما جرى من أحداث. ليس لتأريخها، وهي مهمّة مراكز الأبحاث والمؤرخين. لكن في مقاربة تحوّلاتها وتداعياتها، لا سيما لدى أجيال عربية كبيرة في تموّجاتها وامتداداتها وثقافاتها المختلفة.

بين

عوالم شتّى لم تقرأ جيدًا في كتاب الحرب العالمية الأولى والثانية، لصدّ تردداتها وصورها على الأقطار العربية وسكانها وشعوبها ودولها. مجرد صور جزئية بين ما اختزنته الذاكرة وتواريخ رسميّة متباينة لدول أو طوائف أو جماعات، ومرافعات نظرية في موازين القوى الإقليمية والدولية والأهلي، وتصوّرات متخيّلة عن أحداث غير كاملة على مقاسات فرعيّة وصور مجزأة. فتندلع حروب داخلية بكل مآسيها وأوجاعها، ليس لها علاقة بالتاريخ الحديث والسياسة والاقتصاد والثقافة.

تصفية حسابات دائمة بين القوى السلطوية القائمة على التقسيم والاقتطاع والتفكيك

تبدو الشعوب العربية أقل حساسية من شعوب العالم الأخرى في مسألة الدولة الحديثة. فتكون النتيجة اضطرابات داخلية وحروبًا أهلية وعنفًا وأزمات اقتصادية واجتماعية وخسائر في الأرواح والمعنويات وإنكفاء عن خريطة العالم. وإلا ما الذي يفسر إنخراط الشباب العربي في تلك الحروب العبثية وتدافع القوى الفاعلة داخليًا وخارجيًا في هذا البلد العربي أو ذاك، وديناميات التغلغل والاختراق الخارجي لوضعيّة المنطقة العربية غير المتوازية والنظام العالمي لجهة الحداثة السياسية والتكنولوجيا والقانون.

كأن النزاعات الداخلية مقيمة في ثنايا الجغرافية السياسية. تصفية حسابات دائمة بين القوى السلطوية القائمة على التقسيم والاقتطاع والتفكيك وفرض الإرادات العالية. أوضاع تقود إلى مزيد من الغموض في ثناياها العقلية والسوسيولوجية التوسعيّة لجهة عدم الاستقرار. هذا ما تكشفه الأحداث والنزاعات والنكبات (عدا الكوارث الطبيعية)، في غياب النخبة المتنورة والمثقفة لتحقيق التنمية والاستقرار والتعايش بين الشعوب، وتأسيس مبادرات استراتيجية تركّز على المصالحات بين الناس والمجتمع وإعادة التواصل واستخدام قوة الثقافة والفنون لإنشاء جسر جديد بين الجماعات.

بالمقارنة، ما كانت عادية فكرة زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى "هانوي"، وما تعنيه بالنسبة للأميركيين والفيتناميين، أولئك الذين غادروا "سايغون" على متن قوارب خشبية قبل أكثر من 40 عامًا. إنشاء شراكة استراتيجية بين البلدين تحمل صفة الحدث الثقافي بامتياز. خطوة تاريخية نحو علاقات اقتصادية وأمنية، وتعزيز المصالحة بين الناس والمجتمعات. مسار شفاء حقيقي بين عدوين سابقين. اللاعبون على جانبي الصراع ما زال بعضهم يعاني من عواقب الحرب التي انتهت قبل خمسين عامًا، يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة بين قدامى المتحاربين ومن أمراض حديثة.

الفن والثقافة وسيلة توحيد تتجاوز الخطوط السياسية، وتساعد في بناء المستقبل

ما نريد أن نقوله إنّ جروح الحرب لا تزال تصيب المجتمع بالصدمات. سقطت فيتنام العام 1975، ولا تزال نهبًا للأحزان. يخاف الشباب عدم اعترافهم بتراثهم، والبقاء في حيرة بشأن ما يؤمنون به. معالجة عواقب الحرب كانت في طليعة المباحثات والعلاقات الثنائية لإتخاذ خطوات أكثر تعمدًا في المعالجة والمصالحة وإعادة التواصل بين الناس والمجتمعات. ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل على مستوى تعزيز الشفاء بعمق بين أعداء الأمس. إحدى الوسائل هي الاستفادة من القوة الثقافية والفنون وقدرتها على تسهيل الحوار وبناء الثقة وتعزيز الكفاءات، وهناك الدروس المستفادة من يوغوسلافيا السابقة، في "سراييفو"، المكوّنة من أفراد المجموعات والكيانات. تقدّم الثقافات والفنون فرصة كبيرة لإعادة بناء الناس وإعادة تواصلهم، ممّا يخلق فرصة حقيقة لائتلافاتهم ومساعدتهم بالانتقال من الماضي إلى مستقبل صحيّ للأجيال الجديدة. فالإستماع إلى فرانك سيناترا، أو تبادل الهامبرغر، أو فطيرة التفاح، أو مشاهدة أفلام "الجنّة والأرض"، و"الفصول الثلاثة" على الجانب الفيتنامي، تمامًا كسماع أغاني ترينه كونغ سون، أو رؤية لوحات هاتري هيو.

الفن والثقافة وسيلة توحيد تتجاوز الخطوط السياسية، وتساعد في بناء المستقبل. ما زال بعض العالم العربي يعيش في زمن مضى، في وسط مديني خالٍ من الأفكار على مدى 30 عامًا وأكثر. متحف التصميم العربي جزء من تجريب النزاعات والخلافات والهجرة إلى الحرب والشتات. العالم يتذكّر الحروب، فيعيد كتابة قصة ما يمكن أن تكون عليه المجتمعات الحديثة. فيا للعرب!

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن