تدوير قيادات الائتلاف، ليست أمرًا جديدًا، بل تكرّر حدوثه في الائتلاف مرّات ومرّات. لكن الجديد فيه، أنّ العملية تحوّلت إلى ظاهرة، تتنقّل في إطارها مجموعة شخصيات بين المسؤوليات القيادية على نحو من تمّ انتخابهم مؤخرًا، وقد كانوا هناك سابقًا، رغم أنّ الائتلاف شهد تغييرات واسعة في عضويته في السنوات العشر الماضية، غادره فيها كثيرون، وجرى تنسيب أعضاء جدد، لكن مجموعة قليلة من الأعضاء، حافظت على وجودها في قياداته، ومدّت وجودها، وكرّسته في مواقع المعارضة المرتبطة بالائتلاف مثل رئاسة الحكومة السورية المؤقتة، ورئاسة هيئة التفاوض ورئاسة اللجنة الدستورية وغيرها.
كارثة السوريين ليست بسبب نظام الأسد وحلفائه فقط، بل أيضًا بسبب سياسات وممارسات قوى وشخصيات من المعارضة
تستحق الظاهرة التوقّف عندها والتدقيق فيها، لما تحمله من تعبيرات التردي في حركة المعارضة السياسية، وما تمثّله من مقاربة سياسية وعملية لنهج الاستئثار بالسلطة ومنع تداولها، وتمسّك بها وبامتيازاتها المعنوية والمادية إلى أطول وقت ممكن، كما يفعل نظام الأسد.
وتكتسب هذه التعبيرات من حيث أضرارها خطورة أكبر نتيجة التدهور العام في حالة السوريين، وحاجتهم المُلحّة إلى الخلاص من الكارثة، التي غرقوا فيها ليس بسبب سياسات وممارسات نظام الأسد وحلفائه من الروس والإيرانيين فقط، بل أيضًا بسبب سياسات وممارسات قوى وشخصيات من المعارضة السياسية والعسكرية، تمنع السوريين من ضخّ دماء جديدة لقيادتهم في التقدّم على مسارات معالجة قضيتهم بأساليب وطرق صحيحة ومقبولة، وخاصة في أمرين أساسيين: تحقيق السلام، والانتقال السياسي وفق القرارات الدولية.
إنّ الأهمّ في الظاهرة، وفي فهمها تمهيدًا للخروج منها، يبدأ من الوقوف عند عوامل تكوينها، والتي لا شكّ أنها كثيرة ومتشابكة، لعلّ الأهم فيها أربعة عوامل.
العامل الأول والأهم، تفشي ظاهرة الشللية وسط الجماعات السياسية. وتتكوّن المجموعات الشللية هذه نتيجة تجاذبات غير سياسية بعضها على أسس مناطقية/جهوية، أو وفق أسس اجتماعية/مهنية، أو أسس طائفية/مذهبية، أو وفق أسس مصلحية/شخصية وغيرها، مما لا يتوافق مع أسس الاجتماع السياسي المحكوم بأهداف وبرامج ومهمات وعلاقات سياسية، خاضعة للتدقيق والتقويم وصولًا إلى محاسبة المرتكبين، وإجراء التعديلات المطلوبة.
العامل الثاني، أساسه تردّي أسس الاجتماع السياسي أو غيابها، وتدهور حال ما هو موجود منها في الائتلاف الوطني، بين عوامل تسهّل ظهور وبقاء المجموعات الشللية سواء كانت مكوّنة من أفراد، أو مكوّنة من جماعات، أو من الاثنين معًا، وهي حالة تكررت كثيرًا منذ تأسيس الائتلاف أواخر العام 2012، وأبرز المجموعات الشللية التي تشكّلت في سنوات الائتلاف مجموعة الخمسة، التي باتت تتحكّم اليوم بقيادة الائتلاف والمواقع المرتبطة به في تركيبة المعارضة السورية وهياكلها.
العامل الثالث في ظهور المجموعات الشللية وبقائها، هو صياغة سياسة تضامن مصلحي داخل الهيكل السياسي، تجمع أفرادها والأساس فيها ربط المريدين والأتباع ورعاية ما أمكن من مصالحهم ولو لفظًا في مستوى الهيكل، مقابل سياسة رفض وإبعاد المعارضين والمعترضين أو تهميشهم قدر الاستطاعة، ومعاقبتهم وصولًا إلى الطرد، إذا تطلّب الأمر كما حدث مرّات في السنوات الأخيرة.
ووسط سياسة ربط وضبط الأعضاء في داخل الهيكل السياسي، جرى تطبيق سياسة التحكّم بمجيء الأعضاء الجدد الذين تتقاسمهم المجموعات الشللية وفق مستويات قوّتها ونفوذها، والتي تتعزّز في عملية ضبط أخرى من خلال ربط الأعضاء بوكالات، يعطي الأعضاء فيها تفويضات باسمهم في عمليات التصويت، وخاصة في العمليات الانتخابية لأشخاص قياديين، للتصويت باسمهم حتى ولو كانوا حاضرين.
العامل الرابع في تكوّن واستمرار المجموعات الشللية، قيام الأخيرة باتّباع سياسة مهادنة في المحيط الخارجي، أساسه التبعية والاستزلام للقوى والأطراف "الصديقة" و"الشقيقة" والتعامل مع أجهزتها السياسية والأمنية في مستويات التأثير المباشر والحجّة حاضرة، وهي الحاجة إلى الدعم السياسي والمساعدة المادية من جانب الأصدقاء الذين يتمّ غض النظر عن تدخلاتهم وأضرار سياساتهم، التي تُلحق أفدح الأضرار بالسوريين وقضيتهم، مقابل اتباع سياسة مهادنة حيال الخصوم من دول وكيانات وشخصيات على أمل الحصول على سند ومناصرة للبقاء في مواقعهم القيادية.
بات من الضروري إثارة أسئلة تتعلّق بقدرة الائتلاف ودوره في خدمة السوريين وقضيتهم
لقد وفّرت هذه العوامل وغيرها فرصًا ذهبية لاستمرار المجموعات الشللية المصلحية في تولّيها المواقع القيادية في الائتلاف الوطني السوري، ووفّرت فرصة التنقّل السلس بين المراكز القيادية بما فيها المرتبطة بالائتلاف رغم كل الحملات الشعبية والسياسية، التي انطلقت وتكرّرت في سوريا وخارجها على مدار سنوات ضد الائتلاف وشخصياته والمراكز المرتبطة دون تأثير يُذكر.
لقد طوّرت المجموعات الشللية سبل سيطرتها على الائتلاف والقوى المرتبطة به فأفسدتها، وزادت في عجزها وخرابها، ودمّرت وظيفتها، وجعلتها لينة مطواعة لإرادة قوى خارجية، ربطت الائتلاف والقوى المرتبطة به من قوى المعارضة بسياساتها ومصالحها، وباتت تملي إرادتها عليها جميعًا وعلى قياداتها في كل شيء، وباتت القيادة الشللية وواجهاتها، تتهيّب من اتخاذ أي موقف أو قرار، يمكن أن لا يتوافق مع سياسات الدول الصديقة والشقيقة.
خلاصة الأمر، أنّ انتخابات قيادة الائتلاف الأخيرة، أكدت مقدار التردي في واقعه وامتداده في واقع المعارضة ولا سيما المرتبطة به، وبات من الضروري للسوريين، أن يثيروا الأسئلة حول الائتلاف الذي يمثّل قطار جرّ غالبية قوى المعارضة، والتدقيق في واقعه ووظيفته، وإثارة أسئلة أخرى تتعلّق بقدرة الائتلاف في قيادة المعارضة، ودوره في خدمة السوريين وقضيتهم في المرحلة القادمة بعد أن عجز في المرحلة السابقة عن القيام بما هو أقل، وكلّه يطرح ضرورة التفكير بما يمكن عمله، بل العمل بصورة جدّية لتغيير واقع الحال.
(خاص "عروبة 22")