في هذا السياق المنهجي لا بد أن نلقي دائمًا بمفاهيمنا من رفوف الأيديولوجيا إلى أرض المعيش، لأن في الحقيقة ما بينَ الرَّفِّ والأرض يكمُن الوجود الحقيقي للإنسان؛ فالإنسان ليس مسطحًا على الأرض ولا هو منسيٌّ على رفوفٍ عالية أو قديمة أو غير قابلة للمناوَلةِ الآليَّة عفوَ الخاطِر.
الحريَّة مبدأ يجب ألا يخيف الفاعلين الأقوياء
نعم، إن المفهوم القبْلي لن يثبِتَ جدارَتَه في صناعة الحدث، أي في إمكان مثولِهِ كمرجَعٍ مشارِكٍ في الفهم الراهن، إلا إذا وَرَدَ أثناء المعيش في الظاهرةِ، عفوَ الخاطِر. الإنسانُ الحيُّ هو المعيارُ في جدوى الأفكار في البقاء على قيد الحياة، لذا عليه ألا يُخْلي ساحتَه من الفَهم، أي أن يكون مُنتِجًا للفكرة التي تحلُّ محلَّ سابقَتها بجدارةٍ في تأويل الواقِع الحي، كي لا يجثُمَ الماضي على الحاضِر، ولا يجثُم الإنسانُ نفسُه في الحاضر من دون قدْرَةٍ على المجاوَزَةِ الحُرَّةِ بفكرةٍ جديدةٍ تعلو على الجثوم في الحضور بفَتْحِ الحاضِر على الرؤية الحيَّة للكائن المفكِّر فيه، فنضمَنُ المستقبَل.
إن تعظيمَ المثال لا يؤهِّلُ المقلِّدَ الساذَجَ على إحراز الوعي الناجِع في الحَدَث، كأن يعدَّ الواحدُ مثلًا أن مفهوم السمات الأيديولوجية لفكرة "حزبيةٍ" ما صالحة لأن تُطبَّق كما هي لإنقاذ الواقع العربي مما يجري اليوم. إن اليومَ يستدعي مِن المفكِّر فيه أن يرفض إلحاقَه بالتاريخ، بل يجب وعي عدم تاريخيَّته أثناء التفكير فيه، يجب أن يكون جديدًا، قابلًا للنضح المغاير، وليس للجريان العادي. النهوض يستدعي عدَم وضع شروط قَبْليَّة تحدُّ من إمكان النفاذ والمجاوزة الحرَّة إلى الوضعية الجديدة. الحريَّة مبدأ يجب ألا يخيف الفاعلين الأقوياء.
لذلك لم يعد ممكنًا اليوم تجاوز الواقع الجديد للمفاهيم؛ فالحريَّة والعدالة الاجتماعية والهوية وغيرها أصبحت تفرضها حيثيَّات أقدَر على التأثير من المدَّخرات المعرفية السابقة في المواضيع نفسِها. من هنا نطرح عدم الوقوف موقف السلب من التفاعل الحر مع المفاهيم، ولا موقف المعطَّل عن الحركة، بل إن في وسعنا أن نشترِك في التأويل الحضوري لهذه المفاهيم، أي أن نستقبِلَها في أرضنا بذهنية التلقي الإبداعي، وليس بالوقوف موقِف الدونيَّة غير المبرَّر.
الهُويَّة التواصلية نافعة في جعل العرب مؤثِّرين في صَوْغ أخلاقيات العيش الكوني الجديد
إن الثقة بقابلية استقبال ما تطرحه العولمة على المجتمعات المحلية في كل أنحاء العالم، ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية، هي في أن لا نعتبر أنفسنا غير قابلنا للفاعلية المركزية في صناعة القيم، بل أن نتفاعل بكل طاقاتنا الحيَّة معرفيًّا وعلميًّا لكي ننتِج من جديد هُويَّتنا الجديدة بين الأمم. ليس معقولًا ألا يكون لنا رأي في ما يجري، بل نكتفي بما لدينا من آراء في مسائل لم يعد النقاش فيها بالطريقة نفسها التي كانت تجري في القرن العشرين المنصرم.
إن وضعيَّة الإنسان الفرد اليوم تغيَّرت، إذ إن قيمتَه في مدى اعترافه بذاته واشتراكه مع غيره في التأثير على الجميع، بحيث يصبح قادرًا على التبادل. إن الحصانة المعرفية اليوم لا تنفع إذا لم تؤدِّ إلى التبادل المعلوماتي في سبيل التواصل الحضاري. لذا من الضروري فهم النضال في سبيل إبداع الهُويَّة التواصلية النافعة في جعل العرب مؤثِّرين أساسيين في صَوْغ أخلاقيات العيش الكوني الجديد.
لا بد من الفلسفة النَّضِرة مقابِل الأيديولوجيا الكاسِدة، فالهدَف هو اكتشاف المفاهيم الناجعة، وليس التمسّك بالوسائل شعوريًّا وعاطفيًّا. إن الانخراط بعالمٍ متشكِّلٍ وفق منظومة الذكاء الاصطناعي، يقتضي منا عدم التحدُّث بما هو مفارقٌ لهذه الظاهرة العلمية الراهنة. والأخلاقيات النهضوية يجب أن تلامس أذهان الفاعلين بما يحاكي واقعهم، لذا إن إدراك هذه القابليَّة هو الذي يجدِّد أساليب النضال في إنجاز لغةٍ مواكِبٍ وعلومٍ مضاهية، ورأيٍ ملازِم للحدَث.
إن الاستقلاليةَ اليوم لا ينفع فيها ذهنية التسوير الحضاري، بل فتح القنوات بأقصى طاقة لإحداث المنافذ الضرورية إلى كل مكان. لا يمكن أن نكون حاجةً إنسانيَّةً إذا لم ننفذ إلى الحاجة اليومية عند كل إنسان في هذا العالم. وإننا بهذا الوعي الحضوري نفكِّكُ غايات الذهنيات السابقة المهيمنة علينا، كذهنية الاحتلال الصهيوني التي لا زالت تقدِّم نفسها ضمن تفكيرٍ قومي ديني متعصِّب، وذهنيَّة التفوّق العسكري الذي يدمر بلدًا كالعراق ويعيِّن حكومات تابعة تخدم مشاريع الفتن الدينية والطائفية الغابرة، وتعيدنا بالتفكير ألف عام إلى الوراء، والأمثلة تتعدَّد على مظاهر التخريب القصدي.
لذا يجب أن نواجه هذا التخريب القصدي بالوعي الحداثي الأصيل، الذي ينبت في الحَدث الراهن، فيجبرنا على الوعي الحركي الملازم للظاهر، وبهذا نكون قد حققنا الحرِّية الحقيقية التي تلائم سلوكنا الحضاري التقدمي، فلا نستورد مفاهيم للتحرّر من خارجنا، ولا ننزل مفاهيم عن الرفوف القديمة، بل نحيا ذواتنا في حراكها المعيش.
(خاص "عروبة 22")