صحيح أنّ الولايات المتحدة لا تريد، ولا تحتمل هي أو الصين، أيّ نزاع مباشر بينهما قد يؤدي لدمارهما معًا، لكن كل نشاطها الدبلوماسي والاقتصادي يهدف إلى تعويق الاقتصاد الصيني واستنزاف بكين بإدخالها في نزاعات وصراعات مدمّرة، سواء من خلال تأجيج الصراع مع تايوان الصينية بتسليح ودعم مساعي إنسلاخ واستقلال الأخيرة عمليًا، أو تشجيع الفلبين وفيتنام لمواجهة الصين بشأن السيادة والاستغلال الاقتصادي لبحر الصين الجنوبي، أو عسكرة المنطقة بتعزيز القوات البحرية الأمريكية فيها والتحالف العسكري الأمريكي – الأسترالي – البريطاني وتكثيف تسليح أستراليا، أو سلسلة العقوبات المتتابعة على الصين وشركاتها.
وأكملت الولايات المتحدة مساعيها لحصار الصين بطرح محور الربط بين الهند وأوروبا عبر المملكة السعودية والكيان الصهيوني، في مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وبالمرّة في مواجهة ركائز وثوابت الإقليم العربي وعلى حساب ممرّات النقل العربية القائمة المتمثلة في قناة السويس المصرية، والممرّات البرية المحتملة من الخليج إلى أوروبا عبر الأردن وسورية ولبنان. إذن هو تصعيد أمريكي للنزاع وليس تنافسًا حرًا!
تراجع القدرة التنافسية ينتج الفاشية الاقتصادية و"الخطف" حتى من الحلفاء
من يتأمّل السياسات الاقتصادية الخارجية الأمريكية سيجد أنها تجسيد نموذجي للفاشية الاقتصادية أو العدوانية القومية في مواجهة البلدان الأخرى وضمنها الدول الحليفة. وحتى قضية التجارة الحرة (Free trade) التي صدّعت الولايات المتحدة العالم بها، تراجعت عنها عندما تدهورت تنافسية صادراتها في الأسواق الحرة وبدأت في استخدام مصطلح التجارة العادلة (Fair Trade) بدلًا من التجارة الحرة عندما اقتضت مصالحها ذلك.
ولعلّ صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا التي تمّ إلغاؤها لصالح حصول الأخيرة على غواصات أمريكية، نموذج للعدوانية الاقتصادية الأمريكية وسياسة الخطف حتى من الحلفاء والتابعين. كما تنهض تلك السياسات على فرض العقوبات على منافسيها لتعويق تطوّرهم وتخريب قدرتهم على منافستها، مثلما تفعل في مواجهة الصين المثقلة هي وشركاتها بفيضان من العقوبات الأمريكية ومن تقييد التعاون التكنولوجي معها. وحتى أوروبا الحليفة والتابعة للولايات المتحدة لم تسلم من العقوبات التجارية الأمريكية التي شملت تشكيلة واسعة من السلع الأساسية، مثل الصلب والسيارات وحتى السلع الهامشية مثل المشروبات!!
صاحبة المصلحة من تخريب "نورد ستريم 2" هي أميركا التي تريد تحويل أوروبا لاستيراد الغاز الأمريكي المسال الباهظ الثمن
ونظرًا لأنّ إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة (النفط والغاز) لألمانيا ساهمت بقوّة ولمدة عقود في زيادة القدرة التنافسية للمنتجات الألمانية، وفي زيادة تدفّقها للسوق الأمريكية حتى تجاوز العجز التجاري الأمريكي مع ألمانيا نحو 80 مليار دولار، فإنها أصبحت هدفًا للولايات المتحدة التي هدّدت وعاقبت كل من يستورد أو يسهّل استيراد الغاز الروسي مثل تركيا والشركات الأوروبية والألمانية أساسًا التي قرّرت زيادة الواردات من الغاز الروسي عبر مشروع "السيل الشمالي 2" أو كانت تشارك في إنشائه. وشملت تلك العقوبات منع قيادات تلك الشركات من دخول الولايات المتحدة، فضلًا عن العقوبات المالية.
وانتهى الأمر بتخريب خط "نورد ستريم 2" بعمل إرهابي هو نموذج لإرهاب الدولة. وصاحبة المصلحة من تلك الجريمة الإرهابية هي الولايات المتحدة التي تريد تحويل أوروبا لاستيراد الغاز الأمريكي المسال الباهظ الثمن، وإضعاف القدرة التنافسية للصادرات الألمانية، وحرمان روسيا من الاستفادة من ثروتها من الغاز الطبيعي.
تفوّق صيني كبير في الناتج الحقيقي والصادرات السلعية العادية والعالية التقنية
يبدو حديث بايدن عن التنافس الاقتصادي مع الصين غير واقعي، فقد حُسم ذلك التنافس منذ سنوات طويلة في المجالات الرئيسية. وحتى لا يكون الأمر مجرد أحكام قيمية، فإنّ بيانات صندوق النقد الدولي (قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي أبريل 2023) تشير إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي المحسوب وفقًا لتعادل القوة الشرائية وهو الناتج الحقيقي، بلغ 25465 مليار دولار في العام 2022، بما يعادل نحو 18,4% من الناتج العالمي المحسوب بهذه الطريقة والبالغ 139 تريليون دولار في العام المذكور، مقارنة بناتج صيني مناظر بلغ نحو 30217 مليار دولار بما يوازي نحو 21,7% من الناتج العالمي المحسوب بهذه الطريقة. أي أنّ الناتج الصيني يتفوّق على نظيره الأمريكي بنحو 4752 مليار دولار في عام 2022.
الصادرات الصينية تزيد بنحو 1529 مليار دولار على نظيرتها الأمريكية
وفي السياق نفسه، هناك فارق هائل في حركية الاقتصادين، فوفقًا لصندوق النقد الدولي بلغ معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي 1,6% سنويًا في المتوسط خلال الفترة من عام 2005 حتى عام 2014، مقارنةً بنحو 10% سنويًا للصين خلال الفترة نفسها. وبلغ المعدل في الولايات المتحدة نحو 2,1% سنويًا في المتوسط خلال الفترة من عام 2015 حتى عام 2023، مقارنةً بنحو 5,8% سنويًا في الصين خلال الفترة نفسها. والحقيقة أنّ الاقتصاد الأمريكي يعاني من حالة من البطء الطويل الأجل بسبب ضعف الطلب الفعّال الناجم عن سوء توزيع الدخل، وتراجع الطلب الخارجي في ظلّ صعود اقتصادات وأقطاب أخرى.
وفيما يتعلق بصادرات السلع تقدّمت الصين لتشغل المرتبة الأولى عالميًا منذ عام 2005 وحتى الآن. وتشير بيانات منظمة التجارة العالمية (World Trade Statistical Review 2023) إلى أنّ قيمة الصادرات السلعية الأمريكية بلغت نحو 2065 مليار دولار عام 2022، مقارنةً بنحو 3594 مليار دولار صادرات صينية، أي أنّ الصادرات الصينية تزيد بنحو 1529 مليار دولار على نظيرتها الأمريكية. وبلغ العجز التجاري الأمريكي نحو -1311 مليار دولار، مقارنةً بفائض صيني بلغ 878 مليار دولار في العام المذكور.
وبلغت قيمة الصادرات الأمريكية من السلع الصناعية العادية والعالية التقنية 1196 مليار دولار، مقارنة بصادرات صناعية صينية مناظرة قيمتها 3321 مليار دولار في عام 2022. وعلى سبيل المثال بلغت قيمة الصادرات الأمريكية من معدات الاتصالات والمكاتب والكومبيوتر وخدمات المعلومات والسيارات (عالية التقنية) نحو 461 مليار دولار، مقارنة بصادرات صينية مناظرة قيمتها 986 مليار دولار. باختصار هناك تفوّق صيني كاسح ومتصاعد في الصادرات الصناعية العادية والعالية التقنية.
الخدمات المالية والدولار والملكية الفكرية والحروب.. الجدار الأخير للإمبراطورية الأمريكية
تمكّنت الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوّقها في مجال صادرات الخدمات. وقد بلغت قيمة الصادرات الأمريكية من الخدمات نحو 900 مليار دولار عام 2022، وبلغت قيمة وارداتها منها نحو 671 مليار دولار، وبلغ الفائض نحو 229 مليار دولار. أما الصين فإنّ قيمة صادراتها الخدمية بلغت 422 مليار دولار عام 2022، وبلغت قيمة وارداتها منها نحو 461 مليار دولار، وأسفر ميزان تجارة الخدمات الصيني عن عجز بلغ -39 مليار دولار.
وتتفوّق الولايات المتحدة في صادرات خدمات الأعمال والخدمات المالية وعوائد حقوق الملكية الفكرية حيث بلغت قيمة صادراتها منها نحو 545 مليار دولار عام 2022، مقارنةً بنحو 118 مليار دولار للصين. وهذا الأمر يجعل الولايات المتحدة تقاتل من أجل استمرار هيمنتها على قطاع تجارة الخدمات المالية وعلى نظام "سويفت" المكرّس لتنفيذ الحوالات المالية المتبادلة بين البنوك العالمية إلكترونيًا بشكل سريع. كما يجعلها تقاتل من أجل استمرار الدولار كعملة احتياط وتسويات دولية، لأنّ تآكل هيمنة الدولار في تسوية التجارة الدولية سيحرم الولايات المتحدة تدريجيًا من نهب العالم مقابل مجرد أوراق بلا رصيد ذهبي أو إنتاجي. كما تخصّص نحو 3,5% من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق على البحث والتطوير العلميين لضمان استمرار هيمنتها أو حتى قدرتها على المنافسة في مجال براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية.
لم يبقَ للولايات المتحدة سوى القطاع المالي والمكانة الدولية للدولار
إضافة إلى ذلك، فإنّ الصناعات العسكرية الأمريكية متفوّقة وتتمتع بسمعة عالمية متميّزة، والولايات المتحدة هي أكبر مستهلك ومصدّر للأسلحة في العالم. وبالتالي فإنه من المهم للغاية للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي أن تستمرّ حرية الحيازة الفردية للأسلحة مهما كانت الجرائم التي يؤدي إليها ذلك، وأن تظلّ الولايات المتحدة متورّطة في سباقات تسلّح وصراعات وحروب مباشرة وغير مباشرة لأنها هي المشتري الرئيسي للأسلحة التي ينتجها ذلك المجمع الذي اختُرعت له الحروب على يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا وسورية وعلى "الإرهاب" الذي خلقته الولايات المتحدة أصلًا، والحرب التي تمّ استفزاز واستدراج روسيا لخوضها لحماية أبناء قوميّتها واستعادة منطقتَيّ القرم والدونباس اللتين نُقلتا إداريًا لأوكرانيا في زمن الاتحاد السوفيتي وفرّط فيهما يلتسين عند انفصال أوكرانيا. وتلك الحرب بالذات تم تخصيص نحو 50 مليار دولار أمريكي لتمويل شراء الأسلحة الأمريكية لأوكرانيا وتدريب قواتها.
والخلاصة أنّ المنافسة في قطاع الصناعات المدنية العادية والعالية التقنية حُسمت لصالح الصين. ولم يبقَ للولايات المتحدة سوى القطاع المالي والمكانة الدولية للدولار كعملة تسويات واحتياط والتي هي موضع نزاع مع الصين وروسيا وغيرها من الدول التي تعمل على إزاحتها من تلك الوضعية غير المنطقية. ولم يبقَ لها أيضًا سوى عوائد حقوق الملكية الفكرية، وصادرات الأسلحة التي تتغذى على الخراب والدمار والحروب التي لا تقصّر الإمبراطورية الأمريكية في إشعالها أينما تمكّنت من ذلك، لتأجيل أفول هيمنتها العالمية الآتي بلا ريب.
(خاص "عروبة 22")