الذاكرة التاريخية غائبة بل مغيّبة في ظلّ الإصرار الرسمي على حجب ليس كل الوثائق المتعلقة بأكتوبر فقط، بل بكل تاريخ مصر الحربي منذ 1948.
ما يزيد الغضب والإحساس بالمرارة، توالي الأخبار الصحافية بأنّ إسرائيل كشفت عن مجموعة جديدة من وثائقها الخاصة بالحرب للاطلاع العام بمناسبة الذكرى الخمسين لها، هنا نلتقي بفريقين، الأول في تل أبيب حيث الوثائق يتم الإفراج عنها بشكل دوري ما يسمح للباحثين في مختلف أنحاء العالم بالاعتماد عليها في كتاباتهم عن المواجهة العسكرية، والفريق الثاني في القاهرة، حيث لا أحد يعرف أين هي وثائق أكتوبر المخفية أصلًا!
حرب أكتوبر هي ما يبني عليه النظام المصري شرعيّته منذ السبعينيات حتى هذه اللحظة
فمع مرور الذكرى الخمسين، لا تزال المؤسسات الرسمية في مصر، على نهجها القديم والدائم، بعدم الإفراج عن أي وثائق أرشيفية تتعلّق بحرب أكتوبر أو أي مواجهة عسكرية أخرى شاركت فيها مصر، سواء حروب 48 و56 و67 مع إسرائيل، أو حرب اليمن، لتظلّ ذاكرة المصريين عن هذه الأحداث المفصلية مشوّشة خاضعة للرواية الرسمية فقيرة التفاصيل، بينما ينهل الباحثون المهتمون من الوثائق الإسرائيلية باعتبارها المتاح الوحيد.
الذاكرة لا تتكوّن إلا من خلال الأرشيف الرسمي الذي يمكن من خلاله بناء رؤية واضحة المعالم لما جرى، لكن مع غيابه تُصاب الذاكرة بالعطب، فلا يمكن الاعتماد عليها لأنها تخضع هنا لتوجيه رسمي يُعيد صياغة الحدث واستخدامه سياسيًا بغض النظر عن حقيقة ما جرى.
تغييب الرواية المصرية له مخاطره على واقع المصريين وماضيهم ومستقبلهم في آن واحد، ولا يظنّ أحد هنا أنّ غياب وثائق أكتوبر خلف الأسوار المغلقة، يهمّ من يبحث في تاريخ الحروب فقط، فالأمر أعمق من هذا إذ يعكس رؤية من يحكم للمحكومين، عبر إقصاء أصواتهم بحذف قدرتهم على الاطلاع والبحث في تاريخ بلدهم، وطرح الأسئلة التي يجب أن تُطرح.
غياب الأرشيف يُجبرنا على أن نقع في خطأ الاعتماد الأحادي على الشهادات والمذكرات والذكريات التي يكتبها شهود العصر والحدث، وفي أحيان كثيرة يتعمّد صاحب الشهادة أن يضخّم دوره، أو يعيد رواية حدث بعينه ليبرّئ نفسه بأثر رجعي، وهنا لا يمكن ضبط مثل هذه الشهادات إلا من خلال محاضر الجلسات الرسمية التي يمكن من خلالها اختبار صدق صاحب الشهادة التاريخية من عدمه.
المشكلة أنّ حرب أكتوبر هي ما يبني عليه النظام المصري شرعيّته منذ السبعينيات حتى هذه اللحظة، لذا تمّ توظيفها لدعم شرعية الحاكم، فنرى الرواية الرسمية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ترفع من شأن الضربة الجوية وسلاح الطيران، لأنّ مبارك كان قائده، في حين ينسب الفضل الأول في العبور - بناءً على قراءة المتاح - إلى سلاح الدفاع الجوي الذي تمّ تغييب أثره. هذا نموذج واحد من نماذج كثيرة للاستخدام السياسي للحرب في ظلّ غياب الأرشيف.
ترْك الساحة العالمية للرواية الإسرائيلية تبثّ ما تشاء من أفكار وسيناريو للأحداث يعني خسارة الذاكرة
تقتصر الرواية المصرية الرسمية على تمجيد القادة والجنرالات، لكن المجند المصري صانع معجزة العبور والنصر، ذكراه غائبة وحضوره باهت، نريد الوثائق التي تسمح للباحث أن يتتبّع الأسئلة التي تتردّد ولا يجد لها إجابة مقنعة، مثل: هل كان هناك عميل رفيع المستوى في الإدارة المصرية مدّ إسرائيل بمعلومات غاية في الخطورة عن موعد الحرب؟.. ومَن المسؤول عن ثغرة الدفرسوار الشهيرة؟.. ما حقيقة الخلاف بين السادات والشاذلي الذي انتهى باستبعاد الأخير في قلب أحداث المواجهة العسكرية؟.. ما هي الأهداف الحقيقية التي سعت مصر لتحقيقها من عبور القناة وهل نجحت في ذلك فعلًا؟.. كيف انتهت المواجهة؛ بنصر مصري أم بغير ذلك؟
الاحتفالات بالذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، لا يمكن أن تنحصر في بعض المظاهر الشكلية، بل يجب أن تكون حفرًا في الذاكرة بحثًا عن إجابات لما جرى وكيف جرى، وما هي الدروس المستفادة، وما هي الأخطاء التي وقعنا فيها؟، لكي نقدّم الدرس الذي نبني عليه للمستقبل، أما أن نترك الساحة العالمية للرواية الإسرائيلية تبثّ ما تشاء من أفكار وسيناريو للأحداث، فهذا يعني خسارة الذاكرة على المدى البعيد، فلن تمضي عقود قليلة إلا وسنجد أنّ الرواية الإسرائيلية هي السائدة، ولا عزاء لمن أغلق الباب على الحقيقة وغيّب وثائقه.
(خاص "عروبة 22")